• RSS
  • Delicious
  • Digg
  • Facebook
  • Twitter

ميلاد آخر..الشاعرة/ فروغ فرخزاد



ميلاد آخر
الشاعرة/ فروغ فرخزاد
ترجمها عن الفارسية: أيمن بدر

كل كيانى آية مظلمة
حملتَكَ فيها مراتٍ ومرات
إلى تفتّحات كل فجر
والتبرعمات الأبدية آهةً وآهة.
فى هذه الآية
جمعتك مع الشجرة والماء والنار
ربما الحياة شارع طويل تعبره كل يوم امرأةٌ بسلة خاوية
ربما الحياة حبلٌ بغصن قد تدلى منه رجل بإرادته
ربما الحياة طفلٌ عائد من المدرسة
ربما الحياة إشعال سيجارة فى الفضاء اللين بين ممارستين للحب
أو رحلة مضطربة لعابر
يرفع القبعة مبتسمًا لعابر آخر: "صباح الخير"
ربما الحياة هذه اللحظة الصامتة
التى من نظرتى نفسها فى بؤبؤى عينيك
وفى هذا الشعور الذى مزجته
مع رؤية القمر ودخول الظلام
فى غرفة باتساع وحدة
قلبى يتسع لحب
ويختلق أعذارا واهية ليكون سعيدا
بذبول جمال الورود فى المزهرية
بغصن زرعته أنت فى حديقة منزلنا
وبتغريد عصافيرك الكناريا
التى تغرد على نافذة: ..آهة
هذا قدرى.. هذا قدرى
قدرى سماء تتوارى خلف ستارة
قدرى النزول على درجات سلم مهجور
والوصول إلى شىء ما فى الحطام والغربة
قدرى التفاف الحزن حولى فى حديقة الذكريات
وفى حزن صوت روحى حين تقول:
"أعشق يديك"
أغرس يدى فى الحديقة
وأعلم أنها ستنمو
حتى تضع النوارس بيضها
فى عمق أصابعى الملونة
أعلق فى أذنى قرط من حبتى كريز توأم
وألبس فى أصابعى بتلة النجوم
فثمة شارع به فتية مازالوا يعشقوننى
بنفس شعورهم المجعدة وأعناقهم الرفيعة وأقدامهم النحيفة
يتذكرون ابتسامة بريئة لطفلة صغيرة
عصفت بها الرياح ذات ليلة
وهنالك شارع به قلبى
يتذكر أماكن طفولتى المسروقة
رحلة كتلةٍ ما على خط الزمن
لكتلةٍ ما تلقح خطَّ الزمنِ اليابس
كتلةٌ من صورةٍ واعيةٍ
عادت من وليمةٍ فى مرأةٍ ما
وبهذه الطريقة
ثمة من يموت
وثمة من يبقى
أبدًا لن يصطاد صيادٌ لؤلؤةً
فى جدول حقير يصبّ فى حفرة
أعرفُ جنيةً صغيرةً حزينةً
تسكن فى محيطٍ ما
وتعزف نايًا سحريًا
على قلبها فى سكون، وهدوء
جنيةٌ صغيرةٌ حزينةٌ
تموت كل ليلةٍ بقبلةٍ
وفى الفجر بقبلةٍ
تأتى إلى الدنيا

أصوات نسائية..مهشيد امير شاهى


أصوات نسائية
الكاتبة/ مهشيد امير شاهى ترجمها عن الإنجليزية: أميرة طلعت

سمعتُ ذات مرة- وأنا فى الطابق العلوى من أتوبيس لندن ذى الطابقين من بين الأصوات الهامسة التى يقطعها حفيف أوراق الصحف – صوت فتاة صغيرة تسأل : "أمى هل قطتنا ذكر أم أنثى ؟ ".قلّت الهمسات والحفيف بما يكفى فقط لسماع إجابة الأم : "ذكر يا عزيزتى" قالتها بنبرة ثابتة وحاسمة حتى تنهى الحديث.
إلا أن البنت الصغيرة فكّرت بشكل مختلف : "وكيف تستطيعين أن تعرفى هذا يا أمى؟" –طوق الصمت المكان هذه المرة ماعدا صوت الطقطقات الخفيفة للآذان وهى تمتد. لم تتعصب الأم أو تتلعثم – كما كان من المتوقع – إنها حتى لم تطل الموقف على المستمعين بل قالت بهدوء : "لديه شوارب أليس كذلك يا عزيزتى؟" أعادت القهقهات الناعمة، وتنحنحات الرضا للطابق العلوى حيويته قبل أن يعود من جديد لإيقاعه الهادئ من الهمسات والحفيف.
كان التوقف التالى نتيجة لطلبى حيث رننت الجرس بالفعل وأخذ السائق يتهيأ للوقوف جانبا لأنزل عندما سمعت صوت الفتاة الصغيرة مرة أخرى : " لكن يا أمى القطة الأنثى لها شوارب أيضا"، نزلت من الأتوبيس ضاحكةً،وأنا أفكر كيف ستخرج الأم من هذا المأزق؟.
الآن وبعد سنوات من هذا الحادث الذى طواه النسيان، كثيرا ما أجد نفسى فى نفس موقف هذه الطفلة حيث اضطررت أن أقدم كتابًا للنساء – بشعر اللحية أو بدونه – يشبه الكتاب للذكر كما أرى. وأحيانا أندم أننى لم أمكث وقتا أطول قليلا لأستمع للإجابة من والدة هذه الفتاة الصغيرة. لأنها كان من الممكن أن تعطينى وصفا مُرضِيًا لرسم الخط الفاصل بين" الذكر والأنثى" دون أن يبدو مبتذلا هزليا أوتحليليا فظا.
والحقيقة أننى لا أجد فرقا بين الأعمال الإبداعية للرجال والنساء وأبعد من ذلك أننى حتى لا أسعى وراء إيجاد أى منها، إن جنس المؤلف لم يكن أبدا من ضمن معاييرى لاختيار أى كتاب. لذا فتقسيم الأدب على حسب جنس الكاتب يبدو لى أمرا مجحفا للغاية، وسخيفا إلى حد ما لكى أكون صريحة، سخيفا بنفس القدر عندما تحاول تصنيف الأعمال الأدبية إلى مكتوب بخط اليد أو مكتوب على الآلة الكاتبة، أو تصنيفها حسب المؤلف الذى يستطيع استعمال يديه بمهارة أو يده اليسرى فقط. هذه التقسيمات والتقسيمات الفرعية –والتى تستمر إلى الأبد– لا تجذبنى ولا تثير اهتمامى على الإطلاق.
ومع ذلك قد تبرر بعض الظروف مثل هذا المسلك، وأعتقد أن الكتاب الحالى –وكونه أنثويا تماما– هو مثال للاستثناءات التى أتحدث عنها، فهذه المقتطفات الأدبية تطبع فى وقت محكوم على المرأة فيه بالصمت الجبرى وهؤلاء اللاتى عزمن على عدم الخضوع يستحقّون الانتباه –بل أجرؤ أن أقول– يستحقّون الإعجاب.
إن هذه المقتطفات الأدبية لا تتطلب تحليلا إجماليا، فكل قصة تتحدث عن نفسها وتجد مكانها الصحيح. فكما فى أى من مثل هذه المجموعات، ليس لكل القصص نفس الجدارة. فأنا شخصيا وجدت قصة "الأرنب والطماطم" –وهى قصة أسطورية قصيرة– كتبتها "نيكزاد" – اتبة ليست معروفة لى حتى الآن- رائعة جدا. ومن ناحية أخرى فإن "ﮔوهر" والتى كتبتها "خانلارى" و"زيارة مع الأطفال فى القرية الشمالية" والتى كتبتها "ناطق" كان لهما وقعا أقل من توقعاتى. إن الصفات الأخرى لهاتين الاثنتين تلقى -وبلا شك- ظلا على موهبتهنّ الفنية. فـ "خانلارى" و "ناطق" أكثر شهرة فى مجالات أخرى، الأولى فى ميدان البحث والثانية فى مجال التاريخ. وعندما قرأت "قصة شارع" التى كتبتها "دانشوار" – وهى كاتبة إيرانية ذات صيت– تذكّرت بقوة تجربتى الأولى مع (تابيه رولان)([1]) فى محطة مترو (مونتبارناس) بباريس. الفرنسيون يحبون أن يطلقوا أسماء خيالية لأطباقهم، وملابسهم، آلاتهم وخصوصا إذا ما كانت لا تؤدى وظيفتها المتوقعة- أى أن تأكل ما ليس صالحا للأكل، أن تلبس ما لا يناسبك، أو أن تستخدم أداة لا تعمل. إن (تابيه رولان) ليست سجادة ولا تَلُّف، إنها ببساطة امتداد طويل لممر بلاستيكى يتخلل الدهليز من إحدى نهايات محطة مترو (مونتبارناس) للأنفاق حتى الرصيف الآخر، ويسير بسرعة قوقعة بطيئة، بينما يندفع المشاة بسرعة أفقية على كلا الجانبين، تاركين الذى يسافر يوميا عالقا على (تابيه رولان) مع شعور حاد من الإحباط بأنه لن يصل لنهاية الممر أبدا واقتناع عميق بأنه حتى إذا وصل سيكون القطار الأخير قد غادر والعالم كله على متنه.
فقراءة {الحاج بارك الله} التى كتبها "بهرامى" – والتى قرأتها أنا بالفارسية من قبل– كانت متعة. وقد التقيت مصادفة فى هذه المختارات الأدبية بقضية فريدة والتى تعنى بالمترجم فضلا عن الكاتب، وجدت ترجمة " فروخ" لـ "سيدة روحى العظيمة" أفضل إلى حد كبير من نص "طارقى" الأصلى المكتوب بالفارسية.
وهناك اتجاه لإخراج المرأة من العالم الثالث باللين، وكونى نفسى أنتمى لجزء من هذا العالم، فأنا أدين بكثير من الاحترام ولا أنافق أو أنتحب وأنا أتحدث عن قصصهم . ففى هذه المهنة التى تشهد تنافسا لا يرحم على المرء أن يكافح أن يكون جيدا للغاية قبل أن يأمل أن يصبح مؤلفا.
وإنه لتشجيع عظيم للجميع أن تمنح الفرص، مثل الكتاب الحالى، للكاتبات النسائيات ليبرزن مواهبهن، حيث إن قراءة القصص بعين ناقدة خدمة نفيسة لهؤلاء الذين يتخذون التأليف مأخذ الجدية.
فإذا ما كان الهدف من كتابة المقدمة أن تقدم محتويات الكتاب بعين متفائلة ولسان ناعم،إذن فلقد فشلت بشكل مثير للشفقة، أخشى ذلك. وبالمناسبة ما هو الهدف منها؟ وكيف للمرء أن يكتب مقدمة لكتاب نسائى؟ آه لو كنت فقط مكثت قليلا فى هذا الأتوبيس؟...([2])

([1]) مكتوبة بنطقها الفرنسى، وترجمتها "سجادة على عجلات" (المترجم).
([2]) كتب هذا النص لأول مرة كمقدمة لعمل أدبى اسمه "شجرة جوز على قبر المسيح"، (هاينمان، بوتسموث، 1993) بناء على طلب أحد المحررين. ومع ذلك فقبل نشر هذا العمل فإن مدرس للغة الفارسية –واقتراحه موجه لجنسه- طلب إعادة انتاج هذا العمل فى كتاب – ظاهريا عن الأدب – لكنه أتى بجملة أو اثنتين وختم الأمر كله بقوله : " إن مهشيد أمير شاهى تجده أمرا سخيفا أن تصنف الأعمال الأدبية على أساس الجنس" فهذه المقدمة – لسبب أو لآخر – لم تظهر فى النهاية فى كتاب (شجرة جوز على قبر المسيح) فقد فكرنا بأنه من الأفضل أن نطبع هنا النص كاملا لإفادة هؤلاء الذين يحبون أن يعرفوا ماذا قالت "مهشيد أمير شاهى" بالضبط.

صورة المرأة فى النثر الفارسى المعاصر



صورة المرأة فى النثر الفارسى المعاصر
الكاتبة / مهشيد امير شاهى
ترجمها عن الإنجليزية: أميرة طلعت
السيدات والسادة ،كان لدى شك كريه قبل أن أبحر فى كتبى بحثا عن صورة المرأة فى النثر الفارسى المعاصر أن مهمتى لن تكون سهلة، والسبب: أننى مهما حاولت جاهدةً لا أستطيع أن اتذكر ارتجالا بعض شخصيات نسائية فى أدبنا بقيت معى بطريقة أو أخرى من الكتب العديدة التى كتبها مؤلفون متنوعون. وقد وجدت هذا الأمر غريبا جدا لأنى أمتدح نفسى لكونى قارئة جيدة، فهل يرجع افتقارالذاكرة هذا فقط إلى الفشل الانتقائى المفاجئ لذاكرتى أم أنها نتيجة أيضا لدور المرأة المُهمل فى رواياتنا وقصصنا القصيرة؟ إن إثبات أحد الفرضين أو الآخر يقدّم منظورا غير ممتعٍ. تستطيع أن تسميه ماسوشية إن شئت لكننى أردت فعلا ان أعرف لذا أسرعت إلى كتبى وبدأت أجوس خلالهم بانفعال شديد محموم.[1]
بالنسبة للفرض الأول قد انتهيت إلى أنه ليست هناك إرادة مظلمة لا يسبر غورها- أودت بالمرأة إلى ذلك النسيان- ففشلها عام إلى حد كبير. وبالنسبة للثانى، لاحظت أن غياب المرأة فى قصص عديدة ليس هو الذى يترك كثيرا هذا الفراغ فى عقل القارئ، بل تكرار صنف واحد من النساء الذى يقدمهنّ بشكل سئ. فلقد ابتكر الكثير من كتابنا المعاصرين نوع نمطى من المراة تمسّكوا به من أجل حياة غالية. وسأقدم بعض الأمثلة لشرح هذه النقطة.[2]
ولهذا سأعود للكتّاب الروّاد فى هذا القرن وأبدأ بـ "دشتى" و"حجازى" و"مستعان" وفكرتهم عن المرأة تعبر عنها الأغنية التالية خير تعبير:
" اتبع ظلا وسيظل يهرب منك
تظاهر بتركه سيستمر فى مطاردتك
بالمثل حاول أن تلاطف سيدة فستنكرعليك ذلك
وإذا تركتها وشأنها ستداعبك هى
أليس لك الحق إذن أن تقول:
إنهن لسن نساء بل ظلال لنا نحن الرجال؟ "
وبعد أن قالوا آمين انطلق هؤلاء الثلاثة للعمل. مع ذلك فقد سلطوا الضوء مباشرة على رجالهم حتى إن الظلال التى أبعدوها قد تناقصت إلى بقعات تافهة صغيرة جدا.
وباختصار فإن المراة –على حد علم هؤلاء الرجال– ليست إلا سيدة معطّرة جميلة جذابة فقط لتتعرى فى فراش أحدهم. فضيلتها: الجمال، وعاطفتها : التفاهة أو الحب.
ولقد أنتج كلٌ من هؤلاء المؤلفين الثلاثة رواية واحدة على الأقل تحمل اسم امراة كعنوان لها "دشتى" كّتّب {فاتنه} و"حجازى" كتب {زيبا} و"مستعان" كتب {ربيح}. هؤلاء البطلات، مع ذلك، لا تأتين فى الحياة أبدا بصورة ثلاثية الأبعاد وإنما من خلال الكتاب كما نوى لهنّ مبدعوهم أن تكَّن، أى يعلق على الجدار صورا لنساءٍ مزينات بقليل من الروح حتى ليظنّ البعض أنهنّ لا يملكنَ أى روحٍ على الإطلاق. وأسلوب الكتابة هذا على الرغم من أنه كان أكثر الأنماط شيوعا إلا أنه لم يعبرعن روح العصر ويموت نسبيا بعد فترة قصيرة. لقد ازدراه جيلى بأكمله أما الأجيال التى تلت جيلى فقد بقيت على غير وعى به عمليا. وهناك بعض الكتّاب فى مجلات دورية معينة مثل "قسمى" و"فاضل" ظلوا يرسمون شخصيات نسائية من عمل "دشتى" و"حجازى" و"مستعان" فى حب أبدى أو تحب إلى الأبد وهى سطحية بكل المقاييس. وبالرغم من أننى قد بدات بثلاثة من أقدم كتاب القصة لدينا إلا أننى لا أنوى أن أصر على الترتيب الزمنى لأبرهن أكثر على وجهة نظرى. و سأتحدث عن بعض الكتاب الآخرين الذين يستخدمون شخصيات نسائية أحادية النمط أكثر أو أقل بصورة عشوائية أو كما يتداعون إلى عقلى. فى أعمال "صادق وبك" (1916-1998) و"غلام محسين ساعدى" (1935-1985) ستجد صورة للمرأة مناقضة لصورة الثلاثى المذكورة سابقا. فنساء "وبك" و "ساعدى" كائنات كريهات الرائحة قذرات مرهقات تلبسن أسمالا إذا ما ارتدين ثيابا لأن هذين المؤلفيْن مغرمان بالفعل فى رسم النساء كعاهرات. كما يريان وظائف أخرى مناسبة للنساء مثل : التسول، غسل الملابس القذرة، والجثث الميتة، الحمل بدون زواج وبعد ذلك التخلص بطريقة ما من طفلهنّ غير الشرعى. ومهما فعلن فالبغاء ليس ببعيد جداعنهنّ. ولو وُضع أى نمط آخر للمرأة فى صدارة قصصهم فهى إما سطحية جدا لدرجة انها لا تعد شخصية، أو أنها غير مشوقة حتى أنها تكاد لا تجذب أى انتباه. فالنساء فى {الحصان الخشبى} التى كتبها "وبك" وفى {أن تكون هادئا فى غياب الآخرين}التى كتبها "ساعدى" من النمط ( السطحى – غير المشوق) .
دعونا نلقى أولا نظرة سريعة على نماذجهم الأصلية: فالأختان فى {زنبرك خانه} التى كتبها "ساعدى" واللتان تعيشان فى قذارة فساد مع أختهما الأخرى ووالدتها ووالدهما وزوج أختهما فى غرفة واحدة حقيرة، بغِّيتان، بذيئتا اللسان، سيئتا العقل. ونجد امرأتان فى قصتين كتبهما "وبك" وهما "{حفّار القبور} و{لماذا كان البحر عاصفا؟} تُظلمان، تعامُلان بقسوة وتقتلان طفليهما المولودين لتوهما، واحد بدفنه حيا والآخر بإلقاءه فى البحر لكى يستطيعا استكمال حياتهما المليئة بالمحن. أما {تحت الضوء الأحمر} التى كتبها "وبك" فهى وصف لماخور ردئ وكذلك {ظلّ الظلِّ} التى كتبها "ساعدى" باختلاف واحد نسستطيع ملاحظته: إن ماخور "وبك" ملئ بالعاهرات بينما ماخور "ساعدى"يتفاخر بوجود واحدة فقط وهى: "دلبار خانم" والتى أجبرها كبر سنها على التقاعد من مهنتها القديمة لتتجنب مدمنى الأفيون والمخدرات.
أما "خانم بزرﮒ" بطلة {المتسول} والتى كتبها "ساعدى" امرأة متشردة والتى تكسب قوت يومها بالصدقات. وهناك "سلطانة" و"كلثوم" بطلت "وبك" فى قصته {فستان أرجوانى} يعيشان بفضل الجثث اللتان تغسلنها.
ولـ"وبك" و "ساعدى" قصص كثيرة لا تُوصف فيها أى امرأة على الإطلاق، وشخصياتهنّ النسائية الأخرى – كما ذكرت من قبل – ما هى إلا صور أو أشكال زائلة تصادف فقط وجودهنّ فى القصة. كاتب آخر من هؤلاء الكتاب الذين يتميزون بنمط واحد للمرأة وهو "جلال آل احمد" (1923-1969) وهذا النمط – بكل الاحتمالات– قد أُخذ من محيطه العائل، فقد تكون أمه الغيرم تعلمة كما فى {طبخ الثَريد} مشغولة فى الشعوذة والسحر لتتخلص من زوجة منافسة. وقد تكون أيضا مغطاة بالحجاب كما فى {امراة غير مرغوب فيها} ترغب فى أن تظل عبدة للرجل الذى تزوجها من أن تواجه عودتها مرة أخرى كعُملة سيئة لا تُصرف، الشئ الوحيد الذى أشعر بامتنانى لـ"آل احمد" من أجله هو أنه ليس مؤلفا غزير الانتاج، فلقد عَوِّض كثيرا عن ضآلة جهوده الأدبية بشهرته الواسعة – والتى لا تعنينا اليوم.
لديه فقط بعض القصص القصيرة التى تحتوى على شخصيات نسائية. وغير هاتين الاثنتين فقد ذكرت بالفعل أخريات مثل {طلاء الأظافر الوردىّ}، {طفل شخصٍ آخر}،{العيد الميمون} و{نزهة دوله}. فى كل هذه القصصص ماعدا {نزهة دوله} يواجه القارئَ مرة أخرى الأم والأخت الأبديتان فى ذلك المطبخ الأبدى تعرقنَ وتكدحنَ، وعلى استعداد لإشباع أى رغبة أو نزوة لرجل البيت. وهنّ بلا شك تشبعن أيضا عقدة التفوق لدى مبدعهنّ، الذى يصنعهنّ بائسات بقدر الإمكان فقط حتى يظهر شهامته فى إظهار بعض الشفقة عليهنّ.
إن "نزهة دوله" - المرأة المتفردة الوحيدة - هى متخبطة كقصة يتمنى المرء فيها أن يعلق فيها "آل احمد" مع زوجاته المحجبات، غير متعلمات- بغيّات - كما هنّ لأنه على الأقل لم يكن ليرتكب نفس الأخطاء الغبية فى وصفهنّ كما فعل عند محاولته رسم شخصية "نزهة دوله".
وهذه هى الأسباب المتعددة التى فشلت بسببها القصة فشلا كاملا :
1- أن "آل احمد" لا يعلم أغلب التفاصيل العناصرية عن الشخصيات التى يرسمها.
2- أنه لا يملك حس الدعابة الضرورى ليكتب قصة هجائية.
3- كرهه الواضح لشخصيته (المرأة الغنية الموسرة التى تهتم بوجهها وشكلها) قد أظهر ضعف الكاتب اكثر من الشخصية... إلخ.
ومع ذلك فإن "نزهة دوله" تخدم هدفا آخر. إنها تبين كيف أن "آل احمد"لم يكتف باختيار عضوات من نساء أسرته كنماذج للمرأة التى كان يكتب عنها، بل وأنه أيضا يعتبرهم ببساطة نموذج المرأة الذى ينافس مثيله فى الحياة. وهذه الفكرة بالطبع تأتى فى غاية الوضوح أيضا فى {العيد الميمون} حيث يمجد والده – "مُلاّ" بذئ اللسان - يرفض أن يأخذ زوجته إلى حفلة مقامة على شرف تحرير المرأة.
إن غرور "آل احمد" قد جعله يؤمن بأنه رجل ذو إحساس، - وكرجل ذو إحساس – فهو لا يستشير النساء أبدا طبقا للوصف الذى صاغه "ايرل[3] شسترفيلد[4]" ، أو يثق بهنّ فى الأمور الجدية. لقد عاش (ايرل شسترفيلد) فى القرن السابع عشر وكذلك "آل احمد" كما أعتقد.
وبالعكس فإنه كلما ابتعدنا عن الكتّاب الذين كانوا نقطة تغير وانقلاب، وكلما اقتربنا من الوقت الحالى، كلما تصبح صورة المرأة فى القصة أكثر شحوبا. وحتى الكاتبات اللاتى احترفن الكتابة، لم ينتجن شخصية نسائية تُذكر –شخصية تكون أكثر من مجرد اسم فقط أو جنس، أو تكون شخصا لا غنى عنه فى القصة، التى صفاتها – حسنة كانت أم قبيحة – والتى اتجاهاتها -صحيحة كانت أم خطأ–، والتى أفعالها -محسوبة كانت أو ساذجة– تجعلها صامدة فى ذاكرة القارئ.
"طارقى" (1939-..) واحدة من هؤلاء الكاتبات التى غالبا ما تتحدثنَ بضمير ال "هو" المفرد كرجل – فى قصة على ليلة زواجه إذا سمحت! . هذا بالإضافة إلى أنها عندما يحدث وتتحدث عن امرأة، تبدو معرفتها بتحليل المرأة أَضأل من معرفتها بتحليل الرجل. فقد جعلت مثلا امرأة تعطى محاضرة أيديولوجية عن آلام المخاض. والآن تعلم اللاتى أنجبت منّا طفلا أنّ مثل هذا العمل والجهد لا يمكن أن تحتمله القدرة لبشرية. ولهذا لم تنتابنى أى دهشة عندما ماتت شخصيتها فى منتصف إحدى خطاباتها المحكمة.
"سيمين دانشوار" كاتبة أخرى تبدو أنها تؤمن أن الرجال فقط هم الذين يجب عليهم التصرف بينما على النساء أن تشاهد فقط. وتلخص "كينجسلى" عملها بطريقة لطيفة فى هذين السطرين فى منتصف القرن التاسع عشر :
"لابد للرجال من العمل وللنساء من الندب
وكلما انتهى الامر بسرعة كلما ذهبت للنوم بسرعة"
وفى حالة "دانشوار" تعجّبتُ كثيرا كيف أن "آل احمد" –والذى كان زوجها– مسئولا عن ابتكارها لهؤلاء الشخصيات التافهات النادبات كنساء.
نعود إلى الصورة الباهتة للمراة عند كتّاب آخرين: ففى أعمال "بهرام صادقى" (1936-1986) و"جمال مير صادقى" (1933-..) لا تجد وصفا تفصيليا للمراة أو تمييزا لوجهها أو جسدها. ويستمر كتّاب آخرون من نفس الجيل فى هذا الاتجاه فتجد أنهم لا يمنحوا المرأة اسما حتى، ويشار إليها بكلمة "الفتاة" أو "المرأة". وقد برروا هذا بقولهم: لماذا نعطى اسما لحقيبة من العظام؟
ولقد وفر أيضا "احمد محمود" طاقته لأن اثنين فقط من قصصه القصيرة والتى تقدر باثنتى وعشرين قصة أَُثقلتا بشخصية نسائية واثنين من رواياته الثلاث تفاخران بنقص الشخصيات النسائية بهما.
وكنوع من الاعتذار لهؤلاء اللاتى أتينَ منكنّ لتكتشفن النسخ الفارسية من (آنّا كارنينا) و(مدام بوفارى) و(ليدى شاترلى) و(ابن العم بيت) أو (سكارلت اوهارا) فقد ادخرت بعض الصور الملونة للمرأة حتى النهاية. ومع ذلك قبل أن نتوجه إليهم أحب أن أقول بعض الكلمات عن أعمال "محمود دولت آبادى" (1940-..)
ويمكن أن نعده كاتبا قد واجه طائفة واحدة فقط من النساء، فجميع نسائه فلاحات فقيرات يكدحن بجِدّ فى قرى على وشك المجاعة حول إقليم خراسان. ومع ذلك فإن نسائه تنجحنَ بطريقة ما فى التواجد فى كل حالة بصورة فردية، وجميعهن مقنِعات وموثوق بهن ولا تستطعن أن تذهبن بعيدا عن النص دون أن تتركن فجوة كبيرة، وهو شئ لا يمكن أن يقال عن العديد من المؤلفين الذين قد ذكرتهم حتى الان.
وفى حالة "دولت آبادى" فإن صورة المرأة التى يرسمها – رغم أنها تبدو مكررة – إلا أنها لا تنتج عن تدقيق وتفحيص لكن عن رأيه فى طيبة وشر المرأة. وقد دلل على البساطة حتى أنه كلما حاولت إحدى نسائه أن تنحرف عن طريقها، يتأكد لدى القارئ أن الكوارث ستتلاحق. وعلى حد علم "دولت آبادى" فإن الحياة التى ليس بها امرأة لعوب ربما تنتهى نهاية سعيدة. وتقلقه هذه الفكرة لدرجة أنها تكون إما الفكرة المتكررة المهيمنة فى القصة أو تشكل جزءا هاما فيها فى كثيرٍ من كتبه: {الرحلة} و{رحيل سليمان}و{الرجل} وهم ضمن الفئة الأولى، بينما تنتمى {مع شابيرو} و{خرافة بابا صبحان} و{عند المنعطف} و{كوليدار} للفئة الثانية.
وصورة المرأة بارزة كما أعتقد فى أعمال كلٍ من "محمد على جمالزاده" (1892-1997) و"صادق هدايت" (1903-1951)، ويعد كلا من هذين الكاتبين مؤلف عصره _و أعنى بذلك_ أنهما قد صورا فترتهما بقدر من الإخلاص والدقة جعل كتبهما –بصرف النظر عن قيمتها الأدبية– ذات قيمة اجتماعية أيضا. وما هو أكثر من ذلك أن الحوار كان يمثل لغة عصرهم بدرجة كبيرة حتى أن كتبهما تعد مصادرا جيدة للدراسات اللغوية. وباختصار فإن الواحد منا يستطيع أن يرى ويسمع طهران منذ ستين أو خمس وستين عاما من خلال أعمال هذين الروائيّيْن الممتازين. وما يميز هذان المؤلفان عن بعضهما أن "جمالزاده" يكتفى بسعادة أن يعكس صورة المجتمع ، أما "هدايت" فهو يتجه إلى أبعد من أن يكتفى بعكس مظاهر الحياة المختلفة، بل لديه عينا حادة ناقدة عادة ما تترك درسا أخلاقيا غير مكتوب بين السطور.
وإن الشخصيات النسائية الثلاث اللاتى اخترتهن من أعمال "جمالزاده" مختلفات عن بعضهنّ كما تختلف أى ثلاث نساء فى الحياة الواقعية، فتظهر اثنتان منهما فى {سفر قنوات الماء} بينما تظهر الثالثة فى {يوم الحساب}.
"عزت ملوك" ترملت خمس مرات، ولا تمانع -ليظهرها باردة المشاعر- أن تكون عروسا لمرة سادسة، فتنتظر هذه اللحظة السعيدة، وهى لا تحرم نفسها من أن تقضى بعض الأوقات الممتعة، وعلى كل حال فالزواج ليس همها الشاغل فهى أولا وأخيرا سيدة أعمال مهمتها الأساسية أن تجمع كل بنس من الربح لتحقق رأس المال الخاص بها، ولتصل لهذه الغاية فهى لا تتردد جزءا من الثانية أن تستخدم سحرها الأنثوى، ولو تصادف وفشل ذلك تبدأ فى التهديد والتوعد وأخيرا وكحل أخير فهى تثير فضيحة وقد أثبتت هذه الطريقة نجاحا مؤكدا. فهى لا ترى ضرورة للكلام وتستخدم بالضبط نفس الطرق لتتجنب دفع ديونها.
لقد وُصِفت "عزت ملوك" فى بضع صفحات فقط من الكتاب ونسمع لها حوراين فقط كاملين. ومع ذلك فإن القارئ يعلم كل ما يجب معرفته عنها من خلال كلماتها ومفرداتها اللغوية، والطريقة التى تضع بها مساحيق التجميل كل صباح؛ وكيف تبدأ جولة زياراتها اليومية؛ طريقتها فى الحديث والمشى، والسبب فى تواضعها المزيف أو قمة تفاخرها، إنها امرأة حقيقية وبدونها فإن المنطقة التى يرسمها لنا لن تكون كما ينبغى.
أما "رباب سلطان" زوجة الخباز التى تعيش بنفس المنطقة فهى زوجة معتدلة ومتواضعة تقضى وقتها بالتبادل بين لعن وسب وتملق أولادها الستّ العنيدين الذين أنجبتهم على مدار سبع سنين من الزواج. ولعناتها وسبابها تأتى بنفس الطريقة التى تغنى بها لتهدهد أطفالها وكلاهما له رنين حقيقى مثل شخصية "رباب سلطان" نفسها.
وتحتل "ربابه" مكانا أصغر فى الكتاب عن الذى تحتله "عزت" إنها لا تَرى فى الزقاق لكن تستطيع سماعها فى جميع أنحائه وخصوصا عندما تكون هناك وجبة ساخنة جيدة فى المنزل تلين زوجها العابس، أو عندما يكون بعيدا وتبدأ "ربابه" روتينها من التملق والتهديد لتُسكِت أطفالها. ومن خلال صوتها يتعرف المرء عليها ولا يمكن أن يخطئ المرء صوتها أبدا.
وأخيرا نأتى لـ "معصومه شيرازى" والتى ظهرت لأول مرة كجزء من كتاب {يوم الحساب}لـ "جمالزاده" وعنوان الفصل المخصص لها: {الكاهن والمحظيّة}. ولكونه أكثر الأجزاء المليئة بالحركة فى القصة فقد حوّل "جمالزاده"هذا الفصل إلى كتاب منفصل بذاته أسماه {معصومه شيرازى}.
لقد نفخ الملاك إسرافيل بوقه واليوم يوم البعث، و بُعِث كل الموتى من قبورهم واقفين أمام عدالة المحكمة الإلهية. و "معصومه" هى واحدة فقط من هؤلاء المذنبين وهى تخاطب الرب بصوت صادق مخلص مخبرة إياه قصة حياتها. ويقاطع صوته مناجاتها مرات قليلة فقط ليشجعها على الاستمرار، وكثيرا ما كانت تقول عبارات مثل: "يا إلهى عاقبنى أنا الصماء البكماء إذا ما بدوت متبجحة لكنك لست امرأة لتعلم معنى الإخفاق!.
وعندما تنهى "معصومه" قصتها تبدو نقية طاهرة وكأن أحدا لم يمسها كقطعة ثلج، تصويرا كاملا للبراءة، وماذا يستطيع رب "جمالزاده" أن يفعل إلا أن يمجدها؟ والآن نترك إله "خمينى" يبحر فى جوهره المقدس.
والآن نذهب إلى "هدايت".
أنا شخصيا أعتقد أن الشخصيات النسائية التى يرسمها ويبتكرها "صادق هدايت" أفضل من شخصياته الرجالية. فهويلتقطهنّ بدقة تماما. وأعتقد أن سببا من أسباب ذلك هو أنه يرى نقاط الضعف فى المجتمع الذى يعيش فيه تنعكس بشكل أفضل فى النساء، وأن مشاعره المعادية للكنيسة والإسلام – المتطورة بشكل كبير والمعروفة لكل الباحثين بأعماله– لم تجد أداة أفضل من النساء ليوصل هذه الرسالة إلى الجميع. لقد كانت النساء دوما الضحايا الرئيسيين للتعصب الدينى والخرافات فى بلدى.
و يشرح "هدايت" بذكاء الجوانب السخيفة والمَرَضيّة فى الإسلام فى قصص مثل {طلب الغفران} و{المرور بينهما} و{ادر}. فمن يستطيع أن يظهر هذه السخافات أفضل من الشخصيات النسائية؟ وهن يؤدونها بنجاح عالى.
إن "صادق هدايت" يفهم النساء. وهو يفهم بامتياز مشاعرهنّ المختلفة والمعقدة فى أغلب الأحيان، وهذا هو السبب أان نساءه لسن بليدات حتى يجلسن جامدات ويتقبلنَ ما يصيبهنّ دون أى رد فعل. فكل منهن –وليست هناك ضرورة للقول– لها طريقتها الخاصة وقدرتها الفردية المختلفة. إنهن نساء قادرات على الكراهية والحب والغيرة وماهرات، وباختصار فهن مخلوقات من لحم ودم وأتين للحياة بإشراق وحيوية.
وبالرغم من أن "صادق هدايت" على وعى بجهل وبؤس نساء عهده، إلا أنه لم يصور الموقف بطريقة مسرحية ليوضح اليأس، ولا يمزق المرأة لقطع ليقنع القارئ أنها تحت ضغط لا يحتمل.
إن "زرين كوله" بطلة قصة {المرأة التى فقدت رّجُلها} على الرغم من صغر سنها وقلة خبرتها لم تتحطم عندما أدركت أخيرا أن زوجها تركها من أجل الرب. وحياة "علويه خانم" ليست أفضل من حياة كلب لكن هذا لم يمنعها من أن تستخرج أفضل ما بداخل جميع من حولها فى القصة. وإنها فقط "علويه خانم" التى أحب أن أقول عنها بعض الكلمات: إنها امرأة سمينة حميمية ذات شعر أجعد، وجفون منتفخة، وسيلتها الوحيدة للدفاع هى لسانها الحاد المرتجل. إحساسها القوى بالبقاء يجعلها مرنة فى بعض الأوقات وصارمة فى البعض الاخر، كاذبة بارعة ، متآمرة داهية، سيدة تتحكم بمشاعرها جيدا فى كل الأوقات .
يتقابل القارئ معها فى الطريق إلى (مشهد[5]) بين المسافرين الآخرين الفقراء الذين يذهبون إلى هناك فى الحج. ومع ذلك فإن هذه الرحلة لا تعنى شيئا بالنسبة لها إلا وسيلة لكسب العيش. "علويه خانم" تقود مجموعة صغيرة وغريبة من الناس وقد تدربوا على يديها كيف يقصّون مغامرات ومشاكل القديسين فى صحراء كربلاء، بمساعدة ستارة مرسومة مصورة المشاهد الدموية للحرب المقدسة وقد خدع هذا الأمر الركاب الآخرين وسكان القرى والمدن التى تمر من خلالها عرباتهم البالية. ولا أحد يعرف بالضبط كيف جندت جيشها. فهى دائما ما تكذب عندما يتعلق الأمر بعلاقتها بأعضاء المجموعة. النساء فى هذه الجماعة غالبا ما تكن أخواتها أو بناتها. والرجل بالمثل ابنها أو ابن زوجها والأطفال أحفادها أو يتامى تتبانهم بالإحسان.
ومهما أو من كانوا فجميعهم تابعين لها. وهى تستخدم الناس من حولها ولا ترى غنى عن أحدهم ولكن الآخرين يحتاجون إليها ولا يرون لغيرها بديلا .وتضعها شعوذتها فى مآزق ساخنة من آن لآخر وبالطبع فإن غريزة البقاء لديها تدلها على طريقة لتتملص بها من هذا المأزق. و"علويه خانم" شخصية بارزة موجودة لراحة الآخرين وتبقى محفورة فى ذهن القارئ إلى الأبد.
قد أكون أعطيتكم انطباعا بأن رأيي عن الكتاب الفارسيين المعاصرين مثير للشفقة باستثناء "جمالزاده" و"هدايت"، ورغم أن هذا صحيح بالنسبة لبعض الذين ذكرت أسمائهم فى هذه المحاضرة إلا أنه ليس صحيحا بالنسبة للجميع ولا ينطبق على الكل. ولا بد أن أضيف أيضا أن بعض القصص التى أشرت إليها اليوم لكى أوضح ضعف الشخصيات النسائية –ليست بالضرورة قصص سيئة. ونقطة أخرى تستحق الذكر: أننى لم أحلّل أعمال كل الكتاب فى هذا العرض– لأننى رأيت البعض منهم لا يستحق التحليل، أما ذكر الكتاب الآخرين فلأن هذه الدراسة المعتدلة لا تستطيع التظاهربالشمولية.
ومع ذلك فهناك غياب لشئ أتمنى أن تكونوا قد لاحظتوه وافتقدتوه، وهو بالطبع، صورة المرأة فى كتبى. وهذا الإهمال لم يكن بسبب أى اعتدال من ناحيتى ( فأنا لا أفاخر بأى منها) ولكن لأن –وأنا أعلم أنه شذوذ بما يكفى–الأشياء التى يجدها الآخرون تستحق الثناء بأعمالك تبدو دائما اكثر إقناعا من الحقائق التى تشير بها عن نفسك. ولكى أثبت أننى لم أبدأ هذا الفحص بأفكار نسائية مصورة مقدما، وأريد أن أختم خطبتى بقول من أقوال "جورج إليوت":
"إننى لا أنكر أن النساء حمقاوات لكن الله الرحيم قد جعلهن كذلك لكى يتواصلوا مع الرجال"
ولقد توقعت فقط هذا الكثير ولم أتوقع الأكثر من كتابنا المعاصرين ولكن أغلب كتابنا يبدون وكأنهم قد نسوا الجزء الأخير من هذا القول لأن نسائهم لا تتواصل مع رجالهن وسوف يندمون على هذا. أشكركم على حسن استماعكم.

[1] ألقيت هذه المحاضرة فى الأماكن التالية : جامعة بنسيلفانيا (الولايات المتحدة الأمريكية)، جامعة كولومبيا (الولايات المتحدة الأمريكية )، (يو سى ال ايه) (الولايات المتحدة الأمريكية) وجامعة ميتشجن (الولايات المتحدة الأمريكية) وفى (بيركلى) بجامعة كاليفورنيا . وجامعة (اوترخت) بهولندا.
[2] كلهم ثلاث أشهر مؤلفين فى القرن. ومع ذلك فسيظل "على دشتى" يتذكره الجميع بسبب دراساته فى الدراسات الفارسية، والأمور الدينية. وخصوصا من اجل "ثلاثة وعشرون عاما" دراسة عن الرحلة النبوية لمحمد .وقد سجن بعد الثورة الإسلامية وعذَِب فى سن الواحد والثمانون وتوفى إثر جراحه فى ديسمبر عام 1981 أو يناير عام 1982.
[3] لقب إنجليزى (Earl). (المترجم)
[4] مدينة فى شمال إنجلترا تقع جنوب (شيفيلد). (المترجم)
[5] بلدة إيرانية يحج بعضهم إليها بديلا عن مكة المكرمة. (المترجم)

الليل والخبز..الشاعرة/ سيمين بهبهانى ترجمة: أيمن بدر


الليل والخبز


الشاعرة/ سيمين بهبهانى
ترجمها عن الفارسية: أيمن بدر




الشمس، على رأس سرادق الحداد قد رسمت:
السماء أصبحت غائمة وحزينة ومظلمة-
ومع غضب السماء الحقودة ..
ومع الأمطار، ومع كل هذا الإضراب..
تتقطر قطرات أمطار اليأس الأولى
على الوجه المغبّر.
عينه على السماء، والحزن يتساقط،
صدره يتنفس الآهةَ مؤلمةً
متعبٌ وحزينٌ بلا أمل
على الأرض يداه
يزحف من مأواه النصف جدار ،
يد مغسولة من عبء معاناة العمل
وبرغم أن أصابعه جافة، والمساءُ مخزٍ،
ببطء يقرع الباب:
مع أن بعينه أمل الأطفال
إلا أن يديه خالية من خبز أبيه

صورة النساء فى الأدب الكلاسيكى والرواية الإيرانية المعاصرة


صورة النساء فى الأدب الكلاسيكى والرواية الإيرانية المعاصرة

الكاتبة/ آزار نفيسى
ترجمها عن الإنجليزية: أيمن بدر

إن رواية "شهرنوش ﭙارسيبور" {طوبا ومعنى يى شب} (طوبا ومعنى الليل، طهران 1989) بدأت بسلسلة من الصور المثيرة، وتفتتح فى نهاية السلالة القجارية الحاكمة فى الوقت الذى بدأت فيه الأفكار الغربية وطرق المعيشة الجديدة مباشرةً فى التأثر وغيرت العادات المنغلقة فى إيران. أبو البطلة أديب، شاعر وعالم، ولكنه رجل بسيط مهتم بالفلسفة والشعر. وذات يوم بينما يسير فى الشارع مستغرقًا فى أفكاره صدمه أجنبى راكبا حصانه، فأوقعه الأجنبى المتغطرس على وجهه. وبعدها أجبر على الذهاب إلى بيت الأديب ليعتذر. هذه الحادثة هى الصدام الأول والأخير بين الأديب والعالم الغربى. والنتيجة الأكثر أهمية لهذا الصدام اكتشافه المروع أن الأرض كروية. وقبل ذلك كان واعيا بشكل مبهم بكروية الأرض ولكنه فضل تجاهلها.
لأيام عدة ظل الأديب يتأمل ماذا تعنى له كروية الأرض ثم أدرك بشكل غريزى العلاقة بين حضور الأجنبى، كروية الأرض وكل التغيرات وثوران الأرض القادم. وبعد عدة أيام أعلن ملخصه "نعم الأرض كروية، المرأة تبدأ فى التفكير، وقريبا بدأوا فى الاعتقاد أنهم سيصبحون شاعرين بالعار".
والنقطة الأكثر أهمية فى هذه المشاهد هى أن المرأة تلعب دورا مركزيا فى أى صيغة للتغيير فى المجتمع بالتأكيد، فى أغلب السرديات الإيرانية تكون المرأة مركزية فى الحبكة وتأخذ مساحة أكبر. وهدفى الأساسى هو تحليل صور متنوعة للمرأة فى الرواية الإيرانية المعاصرة عن طريق النظر إلى أسلافهم فى الأدب الفارسى الكلاسيكى. وفى الحقيقة أود أن أنشأ تاريخا أدبيا للصور المتكررة للمرأة فى الرواية الإيرانية المعاصرة وأعيد كتابتهم من خلال تألق ووميض ماضيهم الغامض.
أول نظيرمعروف لروميو وجولييت هو قصيدة سردية جميلة – {ويس و رامين} (ويس ورامين). كُتبت فى القرن العشرين بواسطة "فخر الدين جرجانى"، ومن المحتمل أنها أقدم ولا سيما أهم مسرودة فارسية من نوعها. فى مشهد واحد فى القصيدة: رامين – الذى لم ير ويس منذ ان كانا أطفالا- يرى هودج يحمل ويس ويذهب. "ريح الربيع ثائرة ترفع (تسرق) ستار الهودج، فتكشف ويس. نظرة راميس الأولى لـويس مشئومة، أغمى عليه ووقع من على حصانه. ملحمة {ويس ورامين} تبعت بسلاسل طويلة من قصص حب مشابهة لها، والاكثر بروزا هى خسرو وشيرين، شيرين وفرهاد، ليلى ومجنون، بيجان ومانيجه. وك "ويس" تتساوى شخصية النساء فى هذه القصص فى الحب والشجاعة كرجالهم. فهم شجاعات ومستقلات، ولديهم إخلاص أكثر من نقصه لدى رجالهم. والأكثر اهمية فى كل هذا هو الحوار الذى يبدعوه. فهم يبدعون حوارا سلبيا مع العالم الخارجى – المتبلد الإحساس تجاه حبهم- وحوارا إيجابيا مع عشاقهم، ويتضح حيث يتحدون أعراف التقاليد. فى الحقيقة أن بنية المسرودات بنيت حول هذين الحوارين المتوازيين.
صورة نموذجية لتجاوز السجن الانفرادى للثقافة الفارسية هى الصورة المفعمة بالحب برقة لشهرزاد، فى {هزار و يك شب} (ألف ليلة وليلة أو الليالى العربية), الملك فى إطار القصة يمثل القوة الذكورية المطلقة. بسبب خداع المرأة، يقطع كل العلاقات الإيجابية مع المرأة وفى الحقيقة مع كل العالم. الملك قوى كفايةً لينتقم من خيانة زوجته من خلال الزواج الأول وبعدها يقتل عذراء كل ليلة. هذه القوة تتخفى فى ضعف فطرى: بدون علاقة قوية مع امرأة، بدون الثقة فى إمكانية مثل هذه العلاقة، الملك يستحوذ عليه مرض حيث يدمر أدبيا كل مملكته.
شهرزاد –ضحية استبدا الملك- هى رمز للشجاعة والعقلانية والحكمة. جب عليها أن تستخدم ما يسمى "مكر المرأة" لتنقذ المملكة وتجدد السلام للملك. والطريقة التى تستخدم بها هذا "المكر" يمنحها قوتها وجرأتها لتوجه وتسيّر الدراما التى تُرجِع الملك خطوة خطوة سلامة العقل. الحقيقة أنها ناجحة فى استخدام الحكاية السردية، كدواء الملك يشير إلى القدرة الشافية للخيال على حساب الواقعية. شهرزاد تستخدم حكمتها ومهاراتها –وتستخدمهم بإدراك- ليس فقط لتغير لكن أيضا لتعالج رجُلَها.
فى كل المسرودات المشار إليها سابقا، العلاقة بين الذكر وشخصيات الأنثى هى محور الدوران حيث كل العلاقات الأخرى تدور حوله. كنقطة رئيسية لكل هذه العلاقات هى ما أود أن أسميه "الدمار الخلاق". هذا المصطلح يحتاج إسهاب أكثر.
كل هذه المسرودات أُبدعت مجتمع ذكورى متسلسل هرميا بدرجة كبيرة. لذا فمن المفترض أن تدور كلها حول الذكر البطل. ولكن هذا الحضور الفعال للنساء الذى يغيّر الأحداث، والذى يحوّل حياة الرجال من إتباع التقاليد، التى تصدم الرجال عن طريق تغيير طريقة وجودهم بشكل كبير. فى السرد الكلاسيكى الإيرانى المرأة الفاعلة تسيطر على المشهد، فهم يجعلون الأشياء تحدث. مثل الريح فى {ويس و رامين} فهم فتحوا أعين المحبين فيهم إلى بصيرة جديدة واكتشافات حيث تحدّد طريق أحدث الرجال المستقبلية.
هذه العلاقة المدمرة توجه تقاليه العلاقات بين الرجل والمرأة. فخضوع البطل للحب فى اتجاه واحد أو يضعفه الآخر ويهذبه، جاعلا عالمه المألوف لا يطاق. هذا التغير يحضر فى أحيان قليلة بإرادة الأبطال أكثر من الضغط الفعلى للنساء فى حيواتهم. فالملك فى ألف ليلة وليلة يتماثل للشفاء، و"فرهاد" يفقد "شيرين" ويموت، و "مانيجه" ينقذ حياة "بيجان" ، و"خسرو" الذى يملك هويته الذكورية يقوى عن طريق مغامراته الجنسية وعندما يتوق إلى حبيبته يتوب -ويتشارك مع "شيرين"- فقط ليّقتل بينما ينام بجوارها، و "رامين" فى النهاية يُكافأ مع "ويس" مع التى عااش معها إحدى وثمانين سنة سعيدة من عمر زواجه.
أما حالة "المجنون" فتتطلب اهتمام أكبر. بعد أن أجبرت محبوبته "ليلى" على الزواج، أصبح "المجنون" صوفيا غاضبا وقضى باقى أيامه فى البريّة. فحب "المجنون" لليلى فّسر –طبقا للتعاليم الصوفية- أنه مرحلة نحو الحقيقة الكبرى. ولكن بالنظر إليها من وجه نظر العشاق، يناسبها أكثر أن نقول: حب ليلى حوّل "المجنون" إلى الدرجة التى فيها العالم بقوانينه والأعراف لم تعد مقبولة له ونفس الأمر لليلى أيضا تنكر دور التقاليد المحددة لها. فماتت أفضل من الخضوع لزواج إجبارى.
مثالى الاخير من التقاليد القديمة هى البطلة فى {القبّة السوداء}، وهى قصة فى كتاب {هفت بيكر} (الحسناوات المنفصلة) لـ"نظامى". القصة تدور حول ملك يصل إلى مدينة حيث كل سكانها فى حداد. ومن أجل أن يعرف السبب، يضطر إلى أن يمر بنفس العملية فيُأخذ خارج المدينة ويوضع فى سلة كبيرة. ويحمله طائر ضخم عاليا فى الهواء ويسقطه فى مرعى سماوى حيث يقابل السيدة الأجمل تخدمها الأقل جمالا منها. وكل ليلة تدعوه السيدة إلى وليمة وتمرح معه حتى يرغب فى أن يمارس الحب معها. وفى هذه اللحظة الحاسمة تطلب منه أن يصبر وتشير له إلى خادماتها الحسناوات. فيداعب ولعها. ولكن من أجل أن يحصل عليها يجب أن يتحلى بالصبر، والصبر هو الشىء الوحيد اللى لا يستطيعه. فيفشل فى الاختبار ويفقدها إلى الأبد. مثل سكان المدينة يرتدى هو أيضا الأسود لباقى حياته حدادًا على خسارته.
السيدة الحسناء فى قصة "نظامى" تشير إلى نقطة هامة أكثر من الصور الاخرى: فهم كلهم جزء من رؤية الشاعر، الرؤية التى فى جوهرها تنكر وتتحدى الواقعية الظاهرية. هذه الصور تبدو واقعية لنا ليس لأانها رسمت بواقعية ولكن لأن نسيجها يناسب جيدا الواقعية القصصية المبدعة فى السرد. هذه الواقعية القصصية تبتدع فقط كستارة المسرح الخلفية لهويتها الغامضة والمبهمة، بمعنى ىخر هى امتداد لهذه الهوية. وفى سياق عالم مبهم تخلق النساء فى السرد الإيرانى الكلاسيكى أيضا الحب والسلام داخل رجالهنّ أو توبّخن وتغرين رجالهن. بطريقة أخرى يقاطعن الحالة الحالية للشئون، بأن يفتحن طريقا لعالم مختلف.
صور النساء المييزة فى المسرودات الكلاسيكة الإيرانية دامت حتىا لفترة حيث تغير المجتمع الإيرانى مثل ادبه على حد سواء تغيرا أساسيا. من المسرودات الطويلة القلائل فى الفارسية المكتوبة بعد المقدمة عن قوالب الرواية فى إيران فى بداية التسعينات، العمل الذى فيه النساء الأكثر مركزية هو {شمس وتقرا} (شمس وتقرا، طهران، 1910) الرواية الرومانسية التى تقع فى ثلاثة مجلدات لـ"محمد باقر ميرزا خسروى".
فى المشهد الأول البطل –شمس- يتعلق بسيدته –ملكة آبيش- ومشاعره تجاه ثلاثة نساء فى حياته. "تقرا" وهى حبه الأول وزوجة وهى المفضلة لديه، لو كان هذا لسبب آخر غير الأقدمية. "مارى" الفينيسية وهى أجنبية تمثل نموذج الخجولة والفتاة الإيرانية المطيعة، وهى صالحة وتصحح أنه لايستطيع مساعدتها ولكن ليحبها. والملكة نفسها لا تقاوم لأنها ماهرة جدا فى فن الجسد. الآن انقسمت الصورة الهادئة والكاملة للنساء فى القصص الكلاسيكية إلى ثلاثة أقسام. حب البطل لا يجعله يركز على امرأة واحدة، وكذلك يوجهه نحو نساء مختلفات. رواية {شمس وتقرا} تعرض السرد الإيرانى فى نقطة تحول. القصة –مع استطراداتها المملة- تتأرجح بين رواية وملحمة رومانسية. ومذل هذا تصنع عددا من النقاط الثقافية المهمة. فهى تنويع آخر على تيمة {روميو وجولييت}. ولكن شمس أوفر حظا من روميو، فهو تزوج جولييت الخاصة به فى منتصف المجلد الثانى واستمر فى التزوج من النساء الأخريات مع القبول والمباركة بل مع إصرار حبيباته على الزواج.
ولا يزال عالم {شمس وتقرا} عالم ذكورى ولكنه فقد تماسكه السابق، والرجال فقدوا ثقتهم بأنفسهم. والنساء فى الأدب الإيرانى الكلاسيكى كان جزءًا –جزءا مركزيا جدا- من رؤية الراوى للعالم، حيث الروح تتحرك ضد إرادة عوالمها. وفى {شمس وتقرا} لم يعد الراوى يملك رؤية منطقية للعالم ولا حتى إحساس بنفسه، بعالمه أو بالقالب الروائى الجديد الذى يتعامل معه. بكلمات أخرى يتردد باستمرار بين الطرائق القديمة والحديثة لتقييم الواقعية والواقعية القصصية على حد سواء.
النساء فى {شمس وتقرا} احتفظن بمكر النساء فى الحكايات القديمة ولكن لم يستغللنها ليحطمن توجهات البطل أو ليتحدّينَ أعارف عالمهم، فالمكر اُستخدم كوسائل للنجاة فى عالم حيث الخضوع له قيمة أكثر من الخيال وهناك لا رجل سيستمع إلى واحدة -ناهيك عن ألف ليلة- لحكايات امرأة. إذن النساء فى الحكايات القديمة استخدمن المكر من أجل النجاة بحيواتهن وكذلك ليفسدن ويغيّرن رجالهنّ. فى {شمس وتقرا} لم تعد النساء تفسدن، تؤكدن فقط.
ومثل صورة الأنثى فى الحكايات الكلاسيكية، فالنساء فى {شمس وتقرا} مثاليات. ولكن على عكس الصور القديمة، نساء "خسروى" خاليات من الدلالات والمعانى. فهن يفقتقرن إلى إشراق ودائرية المرأة فى المسرودات الإيرانية الكلاسيكية التى تبدو اكثر واقعية لنا بالرغم من مبدعيهم لا يقصدون تقديم الواقع أو ما نسميها نحن الواقعية. "تقرا" ووصيفاتها مجرد أشياء وهمية من خيال الراوى، ناتجة عن عقل منقسم مضطرب باستمرار بفعل الأمر الجديد للعلاقات الاجتماعية والشخصية المفروضة عليها.
كما تغيرت صور النساء فى السرد الإيرانى من الرؤية إلى حلم اليقظة، تحولت الوظيفة الفعالة والمدمرة إلى السلبية والمطيعة. العقل المنقسم للراوى الذكر لم يعد يستطيع ان يخلق رؤية كاملة: فتنقسم الصورة الكاملة إلى شظايا. لا أحد من نساء {شمس وتقرا} مصقولة ومكتملة، فكل واحدة منهن تمثل جزء من امرأة كاملة، الجسد والعقل والروح غير متصلين. ومثلما يشرح "شمس" للملكة انه يحتاج إلى ثلاثة نساء مختلفات ليرضى احتياجاته المختلفة.
وكما يكتشف العقل استدارة الأرض، كما بدأت فى فقدان هويتها بدون اكتساب إحساس جديد باكتمال (او استدارة) النفس، ولكن بدأت عملية من التحطّم لدرجة حيث لم تعد تستطيع الإمساك أو التحكم فى الواقع من حولها. هذا هو سبب أن هذه النساء القصصية ليست مكتملات فى أنفسهنّ. فهن تحركن بعيدا عن عالم المسرودات القديمة الغامض والغير واقعى إلى عالم ملموس وأرضىّ للرواية بدون اكتساب التفرد والخصوصية التى تحتاجها لتضىء وتفعّل حضورها. بدون خصوصية –شخصية مستقلة- بدون بعض البواطن، هذه الصور تصبح أيتاما تُركوا فى قصة شخص آخر. النساء المسيطرات بالذكاء والعظمة على الأرض الخصبة للأدب الكلاسيكى الإيرانى فُصلن وانقسمن فى الروايات الرومانسية اللاحقةـ وشوّهن وقُتلن فى {البومة العمياء} لـ"صادق هدايت" (البومة العمياء، بومباى، 1936). ومن حينها تهيم النساء فى صحارى القصة الإيرانية المعاصرة بلا مأوى بلا ظل، وبلا أهمية.
مقدمة الرواية فى إيران يتزامن مع العديد من التغيرات الاجتماعية العميقة التى كان لدى أبو "توبا" البصيرة ليتنبأ بها. وواحد من أهم هذه التغيرات هو خلق صور جديدة للنساء، خاصة أثناء عهد (رضا شاه). حيث كشف الحجاب الذى أقره رضا شاه –مثل حجاب العصور المتعددة بعده- سبّبَ ثوران، وصوّر برمزية الصراعات والتناقضات التى بسخرية صنعت النساء -بدون أى فعالية رئيسية أو قرار فى أدوارهم- مركز الجدل الساخن الصارخ.
خلال هذه الفترة بدأت الكتابة تقريبا فى كلٍ من الأدبين الواقعى والنفسى . فى كل من هذين الجيلين كان دور النساء وعلاقات النساء أو فقدان العلاقات مع الرجال مركزيًا. وأصبحت صورة النساء فى هذه الروايات دائما متطابقة تقريبا مع –أو رمزية- الرسالة المركزية للرواية.
{بوف ﮔور} رواية "صادق هدايت" القصيرة -المقسومة إلى جزئين- كل جزء هو استعارة مركزية للجزء الآخر. وبالقرب من نهاية كل جزء يقتل الرواى امرأة –فى ماهية مظهريّ نفس المرأة. يبدو ذلك كما لو فى هذين (الرمزيين) المشهدين يندب الراوى انهيار العلاقات المثالية تحت الشمس بين الرجل والنساء فى القص الكلاسيكى.
بمعنى أن {بوف ﮔور} خلقت نسخة محرّفة للحكاية الإيرانية الكلاسيكية النموذجية. فى هذه القصة كل عناصر السرد السابقة له موجودة، ولكن فى قالب عكسى. فالراوى فى {بوف ﮔور} يستخدم كثيرا الحقيقة الخارجية ليظهر حقيقته الداخلية. والنساء والرجال فى سرده غالبا رمزية أكثر منها واقعية. فى الحقيقة، النساء فى {بوف ﮔور} يرمزن إلى الصور المأخوذة من السرد الكلاسيكى الإيرانى: المرأة السماوية المستحيل بلوغها (أثيرى) وكل الغانيات سهل الوصول إليهم (لقاطه). بالنسبة للراوى فى {بوف ﮔور} كلا نمطىّ المرأة صعب الوصول إليهنّ.
فى هذا السرد لا يرسم هدايت رؤيةً ولا تلفيقًا من خياله بل هاجسًا والذى –كما عبّر عنه السطر الافتتاحى الشهير- يأكل كل لحظات السارد ويقوده إلى الدمار الشامل. ويقابل القارىء هنا ثلاثة صور متعلقة بالأصل للمرأة: الأم والمحبوبة والعاهرة. كلهنّ تحملن بذور الدمار وكلهنّ مرغوب فيهنّ بجنون، اثنان منهنّ يدمرهما الراوى ولا يعيدهما.
مثل إطار القصة فى {ألف ليلة وليلة{بوف ﮔور} تظهر شخصية الذكر ليست بالضرورة ضحية مكر المرأة بل ضحية لهواجسه. وفى كل هذه القصص تظهر نهاية علاقة متبادلة متناقضة بين الهاجس والتحرر منه. ولكن الشخصية الأنثوية فى {بوف ﮔور} أكثر استسلاما من الشخصية الأنثوية فى المسرودات الكلاسيكية الإيرانية. فهناك تستخدم النساء قوى الخيال لديهن لإنقاذ أنفسهنّ ولخلق عالم جديد، أما فى {بوف ﮔور} يحدث العكس بالضبط. المحاولة للاتصال بين الجنسين تقود إلى اكتشاف الراوى المحبط لعجزه الجنسى، عجز جنسى هو رمز واضح لروح بائسة ومحبطة. والمرة الوحيدة التى نجح فى إقامة علاقة مع امرأة حينما دخل إلى سرير زوجته (لقاطه) متنكرا كواحد من عشاقها الكثيرين، والفعل الجنسى نفسه كان عنيفا لدرجة جعلته يحرر نفسه من عناقها، فقتلها غيرعامد بسكين أحضره معه فى السرير. الإشباع الجنسى والموت أصبحا مترادفين.
تقدّم {بوف ﮔور} العديد من الرؤى النافذة للادعاءات الثقافية الخفية بين الذكر والأنثى فى إيران وأيضا توضح انهيار الحوار بين الرجال والنساء. وفى الروايات التى سارت على نهج {بوف ﮔور} نلاحظ افتقارها للحوار (دلالة على تحطم روحها) وافتقارها لتماسك بنائها.
فى {بوف ﮔور} تقود عملية تحطيم الروح إلى استبدال الحوار (الديالوج) بالمناجاة (المونولوج) وإلى حافز نحو الدمار يزيد من رغبة العاجز جنسيا. أصبحت شخصية الذكر فى {بوف ﮔور} الأولى فى سلاسل الشخصيات العاجزة جنسيا ولديها هواجس التى اجتمعت فى القصة الإيرانية المعاصرة. عدم قدرة الكتّاب على خلق شخصيات أنثوية فعالة وحوار بينهنّ وبين الشخصيات الذكورية أصبحت عقبة أساسية فى طريق تطور الرواية الإيرانية.
تفكك الشخصيات القصصية فى الرواية الإيرانية ربما أيضا شير إلى مشكلة ثقافية أساسية أى تفكك روح الذكر الإيرانى تحت ضغط ومطالب ثقافتين متعارضتين تماما: الأولى، ثقافة الماضى المتلاشية مع نظرتها الموحدة والطبقية للنساء. والأخرى، ثقافة الحاضر الحديثة المستوردة من الغرب مع نظرتها المتشككة والساخرة للعالم ونظرتها المتقلبة دائما للنساء.
نستطيع القول أن صور النساء فى {بوف ﮔور} مبنية على هواجس السارد وإنكاره للواقعية. ولكن لا يزلنَ أكثر واقعية ولديهم حياة قصصية أكثر من الصور التى ظهرت مؤخرا فيما يسمى بالروايات الواقعية؟ فى هذه الروايات الانهماك مع النساء أصبح مفرطا على عكس {بوف ﮔور} تظهر هواجس الكاتب الشخصية، وفى هذه الأعمال تنهار المسافة الفنية بين الكاتب والعمل حيث لا يوجد بنية متماسكة تستطيع أن تحل محل الصور فى علاقة إبداعية مع شخص آخر. هذه السرديات أصبحت محجّبة وسير ذاتية ملفقة، وأيضا متفككة وفوضوية ليست فردية ولا ملموسة وفى الغالب شعارات وإثباتات للرضا المتلطف للنساء ورغباتهنّ الغير مشبعة والتى لا تذكر.
رثاء الشخصية الرئيسية فى {باره يى ﮔمشوده يى راعى} للكاتب "هوشنـﮓ ﮔلشيرى" (مصباح راعى المفقود، 1977) واحدة من أفضل الأمثلة لما يحدث لنفسية الرجل المنعزل، لرغبة رجل وتلهفه إلى أمن أمه والعالم الدائرى ذاك-مثل الرَحِم- يفسح مكانا- للدم وللغذاء له. راعى يقرر أن يهجر محبوبته لأنها قصت شعرها قصيرا وقذفت حقيبتها من فوق كتفيها وربما لم تحترم المقدسات والموتى حينما صبغت شعرها باللون الأصفر. وهناك سؤال تدور حوله الرواية كلها صانعا جوًا من الارتباك: ماذا حدث لتلك الصورة الأليفة المنقادة للجمال ذى الشعر الأسود كالغراب التى قضت لحظاتها فى خدمة رجلها؟
أما الرجل الواثق الذى كان يسيطر على العالم فى الماضى قد انهار. وما تبقى هو بقية من الماضى فى العقل الباطن للكاتب بدون علاقة مباشرة مع العالم الجديد. والعقل فى صراع دائم مع هذا العالم. من ناحية يطلب أن تأتى بشروط تتفق مع الواقع الجديد، ومن ناحية أخرى ليس له سيطرة نهائية عليه ولا حتى فهم للواقع. عداء غامض وعدم ثقة تجاه الواقع الجديد يدعو العالم الغربى أن يصب فى الرواية الإيرانية ويلوّن صور نسائه أكثر من أى صور أخرى.
والكاتب أصبح خائفا من المرأة الواقعة فجأة. فى الماضى كانت المرأة جزءا من رؤيته وأخيرا أصبحت وحيا من خياله، أليفا يراوغ بخجل يعارض رغباته، له حضور يجعله يتلاشى فى غمضة عين. وأن يعيد خلق كائن قصصى يحذر منه فى الواقع أصبح تقريبا مهمة مستحيلة.
لذا هناك شىء مثير يحدث فى هذه الروايات: تحرك بعيد عن الصور الرمزية فى القصص الكلاسيكية -حيث بطريقة ما تشعر أنها حقيقية جدا- إلى الصور الواقعية للقصص الواقعية –حيث تشعر برمزيتها. الكاتب اختار نمط متكرر من الأفكار، مذهب لتعريف والاستيلاء على هذه الواقعية الجديدة ليفرغها من تهديداته ويجعلها تحت السيطرة.
هذه العملية يمكن ملاحظتها جيدا فى تقاليد الواقعية فى الأدب الإيرانى. فهذه الروايات الواقعية تأثرت غالبا بمدرسة الواقعية الاجتماعية المهجورة والمنطوية على مفارقة تاريخية. من حيث البنية اتبعوا القالب الصلب والخطى لرواية القرن التاسع عشر. والشخصيات فى هذه الروايت من المفترض ان تكون حقيقية من الطبقة العاملة أو الفلاحين.
النساء فى هذه الأعمال عادة صبورات وقويات، وتناقضاتهن غالبا خارجية، تعكس التناقض الطبقى داخل المجتمع. وهذا النقص وأسميه (الدونيّة): الفردية والصراعات الداخلية والتناقضات التى تعطى الروايت الواقعية الغربية أضواء وظلال مبهرة. على سبيل المثال رواية {جايى خالى يى سولوﭺ} (مكان سولوﭺ الخالى، طهران، 1979) للكاتب "محمود دولت آبادى" وتبدأ مع "مرجان" البطلة تستيقظ ذات صباح لتجد أن زوجها هجرها هى وأطفالها الثلاثة. فمن الصفحات الأوائل يحول السارد الموضوع حيثأن له أبعاد متعددة داخل القضية الاجتماعية المجرّدة. وعند وصف مرجان وسولوﭺ يُعلِمنا فى أضيق الحدود كيف أن الحب يصبح بلا معنى بين البشر بدون المال. وفى كل محطة عصيبة فى الرواية يثقل السارد شخصياته بأخلاقيات مملة وإسهابات غير ضرورية. وتُقاطع الحوارات باستمرار بواسطة السارد وهو يخاطب القارىء.
حتى الروائيين الذين لايعتنقون أيدلوجية محددة يشاطروا السارد هذا الاتجاه فى {جايى خالى يى سولوﭺ}: حيث يشعرون بانجذاب أكثر للأفكار أكثر من القصة او الشخصيات فى القصة. النساء كضحايا اكثر وضوحا للظلم الاجتماعى يصبحون مركزا لهذه الأخلاقيات والتوضيحات لدى الروائيين، والمرأة الضحية تصبح تيمة شعبية فى هذا الأدب.
وفكرة النساء كضحايا يرجع تاريخها إلى رواية {طهرانى ماخوف} للكاتب "مشفق كاظمى" (ظططهران المخيفة، طهران، 1925). وفى رواية "كاظمى" كل أنماط الملاأة ضحية المجتمع موجودة، من الآنسة الشابة الجميلة الواقعة فى حب نبيل والشاب المفلس يضايقه الطمع، والوالوالدين عديمى الإحساس، إلى المرأة المتهدمة المخدوعة النادمة. من هنا فصاعدا نواجه صور النساء كضحايا اجتماعيين فى عدد من الروايات حيث نستطيع تصنيفها تحت العنوان الملتبس (رواية رخيصة).هؤلاء النساء أيضا ابتلين بالحب، مثل معاناة البطلة الشابة فى {طهرانى ماخوف} أو مثل "آهو" فى رواية {شوهرى آهو خانم} (زوج آهو هانم، طهران، 1961) للكاتب "على محمد افغانى"، خُدعوا بواسطة شكل آخر مفضل للروائيين الشعبيين وهو الغانية التى تسرق زوج البطلة.
فن الرواية الإيرانية تأثر بعمق بالرواية الشعبية وخاصة فى استخدامها لعلاقات الرجل والمرأة كأداة نقل ليقدم الحدث ويبرر الأخلاقيات، أكثر منه كموضوع جدير باستكشاف تعقيداته ومشكلاته. وإذا استخدم الروائيون الشعبيون –مثل مستعان- الأخلاقيات ليبرروا بشاعة الحدث، فهناك المزيد من الروائيين الجادين مثل "افغانى" استخدموا الحدث ليصنع نقد أيديولوجى واجتماعى مستساغ للقراء. وحتى الروائيين الأكثر جدية مثل "صادق وبك" فى العديد من القصص القصيرة وفى الرواية النفسية المشهورة {سنـى صبور} (الحجر الصبور، طهران، 1960) يجعل المرأة الصريعة هى شخصيته المركزية. وفى {بوفى ور} لـ "صادق هدايت"، "لقاطه" صورة قوية تمثل هواجس السارد الشخصية وأخلاقه وعجزه الجنسى على حد سواء. وفى رواية "وبك" ، "لقاطه" تتحول إلى عاهرة ذات قلب طيب-كاركاتور للصورة الكاريكاتورية الآن- مثل العاهرات فى روايات "دستوفسكى".
فى رواية بعد الأخرى، خلق الكتاب الإيرانيين وأعادوا خلق صورتين مفرطتين وباليتين للنساء، الضحايا والعاهرات. وفى كلتا القضيتين تصبح إمكانية علاقة ذات هدف بين الرجل والمرأة محض سراب. مع استثناء روايتين كتبوا بواسطة نساء، بلا محاولات حقيقية تصنع لفك حبال الشكوى الاجتماعية من الصور المأخوذة للنساء- لندع النساء يُجذبن إلى كنز مدفون أخفينه فى أعماق وجودهم الوهمى أو أيًا كان. ولكن حتى هاتان الكاتبتان المشهورتان –"دانشوار و ﭙارسيـﭙور"- غير قادرتين على تقديم التناقضات الثرية والتعقيدات الداخلية لشخصياتهن القصصية.
فى رواية {سوواشون} للكاتبة "سيمين دانشوار" (طهران، 1969)، تحاول المؤلفة سبر أحاسيس امرأة متزوجة سعيدة والتى رغم ذلك تعانى من الموقف البطولى العنيد الذى يتخذه زوجها تجاه الحكم الإيرانى الفاسد وأسياده الأجانب. تقديم "دانشوار" لشخصية "زارى" تخلق بعض ارتباك لدى القارىء، فهى تبدو كما لو أنها أوصافا مباشرة وصريحة لأعمق مشاعر "زارى"، وهناك يوجد بعضٌ من عاطفة جياشة حيث لا تستطيع التعبير، كما لو أن استياءا عميقا يتمنى أن يظهر للسطح ويهزأ بأقدس انتماءاتها. ولكن لا تسهب "دانشوار" فى هذا الجانب الخفى والمزعج لـ "زارى". وفى النهاية حين قتل زوجها، اتخذت "زارى" مواقفه السياسية بإخلاص واقتناع. و"دانشوار" – مثل زوجها الأخير الذى يضاهيها شهرة- "جلال آل احمد" صنعت تعبيرات اجتماعية من خلال شخصياتها. وهى - مثله وحشد من الكتاب الآخرين- شجبوا الأيدلوجية ولكن اتبعوا أفكار سارتر ثم الأقوال المأثورة على ضرورة "حفظ النثر". بسّطت معاناة بطلتها الحقيقية وهو الصراع وألم الاختيار بين زوج تحبه واستقلال العقل التى فى أشد الحاجة إليه.
{سـﮓ و زامستانى بلند} (الكلب والشتاء الطويل، طهران، 1976) أول رواية طويلة للكاتبة "شاهرنوش ﭙارسيـﭙور" هى أول سرد لقصة شخصية تدول حول تجارب ومحن فتاة إيرانية من الطبقة المتوسطة. فى الجزء الاول تخلق العلاقات الخادعة التى تقع فيها الفتاة ولكن فى الجزء الثانى فجأة ينهار السرد ويتحول من التمثيل الواقعى والوصف إلى تيار من المؤسسات المتورطة فى موت أخى الفتاة وسجنه ومعاناته. كما فى روايتها الأخيرة {طوبا ومعنى يى شب} تبدأ " ﭙارسيـﭙور" بالصور الملموسة لحياة امرأة ثم تتسلل إلى تأملات غامضة.
ببعد الثورة الإسلامية المحجب السابق والتلميحات الرمزية للنظام السياسى وتحوله إلى انتقادات علنية وصريحة للحكومة فى العصر البهلوى. فى رواية "رضا براهينى" الضخمة {رضايى سارزمينى من} (أسرار أرض موطنى، طهران، 1989) خادمات أرمينية الأصل وزوجات متمرسات لموظفين إيرانيين كبار يُخدعوا عن طريق جنود أميريكيين وحشيين ذوى سلطة. فوى مقابل هذا الإغواء الرمزى للنساء الإيرانيات والذى يساوى رمزيا الرجال الإيرانيين الديوثين باستغلال الأميريكيين، لدينا نساء شجاعات ونبيلات مثل "تهمينه" والتى اسمها يذكرنا بزوجة/خليلة رستم، البطل الإيرانى الأسطورى الحازم. فتصبح رمز إيران النقية.
فى رواية {آوازى كشتيجان} (أغنية القتلى، طهران، 1983) للكاتب "براهينى"، نجد أننا أمام محاولة نادرة لرسم المرأة المعاصرة. ولكن يا للحسرة، فهى زوجة البطل كاتب وأستاذ جامعى حيث يضايق باستمرار ويُعذّب بواسطة السافاك[1]. وكاستجابة لندمه على الحياة الغير ىمنة التى منحها لزوجته وابنته، تعطيه المرأة –وللقارىء أيضا- محاضرة كاملة تتعدى الثلاث صفحات حيث تمجده لفضحه لنظام الشاه أمام العالم كله بينما كلنا صامتون. وتقول (على عكس معظم الرجال الذين يستخدمون زوجاتهم ليكتسبوا الثروة والسلطة علمها هو أن تساعده فى عمله المحفوف بالمخاطر. وتستمر فى مدحه وتقتبس من الشاعر الإيرانى العظيم "سعدى" وتدعوه ب "صوت القتلى"، وتشكره على ضمانه لها إمكانية مسح تعذيب السجون الإيرانية. وهكذا قضية اجتماعية سياسية معقدة تتحول إلى إصدار مميز من فيلم "المهمة المستحيلة"، وعلاقة الحوار الثنائى ومتعدد المستويات تتحول إلى مونولوج مبتذل يكرر نفسه، والزوجة تصنع ما لا يستطيع الزوج عمله مباشرة: أن تستخدم علاقتها لتصنع منه بطلا.
أتعجب قليلا من أن القارىء لهذه الروايات لديه شعور غريب، كما لو أن الصور ثائرة على سوء معالجتها وترفض أن تأتى للحياة وترفض أن تدعم طلب كتابها لكى تراهن على قضايا الإنسان الجاد. عامة فى الروايات طبقات متعددة من العلاقات تُخلق فى التفاعلات بين الأفراد. والعالم الخاص لهؤلاء الأفراد يصبح مجسدا، والطبقة الداخلية التى تعطى مادة لطبقات الأخرى للقضايا الاجتماعية والأخلاقية والفلسفية. الصور فى معظم الروايات الإيرانية تفتقر إلى جسد. فعدم قدرتهم على صنع علاقات يحول الشخصيات إلى مجرد أصداء لشخص آخر ولمبدعهم فى الأساس.
رواية {ثريا فى غيبوبة} للكاتب "إسماعيل فصيح" واحدة من الروايات الإيرانية القلائل التى حاولت –فى أفضل تقاليد الحكاية الشعبية- أن تخلق صورة للمرأة المعاصرة المستقلة. وهى تتبع -فى الحقيقة نماذج صريحة- من رائعة همنجواى (الشمس تشرق أيضا) فى أطراف الحبكة والموضوع والشخصيات والأحداث. البطل الساخر يغادر برومانسية دموع حرب إيران إلى باريس لزيارة ابنة أخيه ثريا والتى حجزت فى المستشفى فى غيبوبة. وهناك يلتقى بالعديد –فى الغالب عديمى الأخلاق- من المغتربين الإيرانيين وبينهم يجد سيدة جذابة ساخرة ذكية. هى لا تقاوم بحيث يصبح الرجل عاجز جنسيا مجازا. كل الشخصيات الأخرى فى الرواية إعادة جمع مبهمة لشخصيات رواية همنجواى. فلا النساء المبهرجات والسخرية المحبطة ولا مشاعر البطل المحبطة تجاهها تخلق أى عمق أو انطباعات تدوم لدى القارىء.
فى معظم الروايات التى كتبت بعد الثورة الإسلامية، صور النساء تتمات لصور أدب ما قبل الثورة. تلك الروايات تفتقر إلى التفاعل النشط بين شخصيتى الرجل والمرأة . والبعض –مثل روايات الحرب للمؤلق "احمد محمود"- ليس بها شخصية أنثوية رئيسية. فى العديد من الروايات الأخرى يلغى المؤلفون الحوار بين الرجال والنساء لغياب الرجال أو بعجزهم النفسى –غن لم يكن الجسدى. أما الروائى وصانع الأفلام "محسن مخلمباف" الشاب المسلم المثير للجدل خصص روايته {باغى بلور} (الحديقة البللورية، طهران 1989) للنساء "النساء المضهدون على هذه الأرض". وحشدت هذه الرواية بالنساء الذين قتل أزواجهم فى الحرب أو سيقتلوا فى نهاية الرواية. وتنتهى الرواية على نحو غريب بمسيرة سلمية للأرامل والاطفال مع الرجل الوحيد المتبقى فى الرواية، الوحيد الذى خُصىّ فى الحرب.
رواية {تالارى آينه} (قاعة المرايا، طهران 1991) للكاتب "آمى حسين ﭼلتان" والتى تدور حول ثورة إيران الدستورية (1906)، مليئة مرة أخرى بالنساء. والنقطة الرئيسية فى الرواية تبدو أنها العلاقة أو –أفضل- اللا علاقة بين ميرزا ثورى من أسرة أرستقراطية وزوجته المريضة التى تحتضر. ابنتهما الجميلة نسخة طبق الأصل من أمها. وميرزا يلام بشكل مبهم ربما لإهماله زوجته الحبيبة الحنونة. هذا الشعور – ككل الآخرين- لم يعبر عنه بشكل واقعى. تنتهى الرواية بموت الزوجة. ويتيّم الزوج المكلوم بالصورة المطابفة لابنته لخطأه فى حق زوجته الميتة. نادرا ما تجد كاتبا يقدم للقراء صورا متدلية وفى بعض الأحيان متألقة بدون حياة أو مادة.
وهكذا خلال فترة الثمانينيات تأرجحت الرواية الإيرانية بين التعهد الأيدولوجى والإسقاطات الهاجسية للذكر، تاركةً شخصيات النساء مسطحة وغير ملموسة. مما يدعو للدهشة وللأسف أن مثل هذا التعميم الجارف يصنع بثفة حول جزء جوهرى فى الأدب الإيرانى المعاصر.
بعد خمسة او ست سنوات ظهر اتجاه جديد فى جيل أصغر من الكتاب الإيرانيين، فدخلت الرواية الإيرانية عصرا جديدا حيث به أكثر ما يميزه طبيعته المؤقتة. فالثورة الإسلامية –مثلها مثل العديد من الثورات العظيمة- هزت كل القيم والمبادىء داخل المجتمع. وبعض المبادىء دامت أو عادت للظهور فى قوالب مختلفة. ولكن هذا العصر –فى إيران والعالم نفسه على حد سواء- عامة عصر الشك وعدم اليقين. والآن صورة النساء يعاد النظر فيها ويعاد تعريفها. تحت الضغط الشديد، يجب أن ينظر النساء إلى أنفسهن ليس فقط كأعضاء فى مجتمعهم او بلدهم، ولكن كأفراد أعيد تعريف حيواتهم الخاصة وحريتهم.
فى هذه الحالة من التدفق عندما يُشكّ فى كل شىء وحين يشعر الحاضر باللاواقع أكثر من الماضى، الصور القديمة للنساء - الواقعية فى الظاهر- لم تعد لها وظيفة. وفى معظم الروايات الحالية تبدو الصور أنها تهاجم معا كما لو أنهم يرفضون العمل تحت ظروف الحاضر. فى هذه الروايات –وخاصة روايات الكتاب الشباب (اثنان منهم نساء)- الصوت السردى أيضا ينهار أو يصبح مونولوج واحد طويل بلا إيقاع والشخصيات حتى أكثر ظلالية وغير حقيقية أكثر من الروايات السابقة. فالروايات تعبر عن نزعة للوعظ والشك وعدم اليقين فيما يعظون به.
ونرى هذه العملية فى {طوبا ومعنى يى شب}. إن الحكاية التى كنت قد استشهدت بها فى بداية هذا الفصل توضح أن "ﭙارسيـﭙور" على وعى بالخوف الغريزى لمفكرى إيران من القضايا الإجتماعية التى على علاقة مباشرة بالمرأة. ومن هنا فإن روايتها – مثل أحدث روايات "منيرو راوانـﭙور": {دلى فولاد} (قلب من حديد، طهران، 1991) تعطينا رؤى مثيرة، فالروايتان عن امرأة تبحث عن مكان لها بالمجتمع، إلا أن هذا البحث لم يكن أبدا مركز الأحداث ولا يكون أبدا محددا أو ذاتيا أو واقعا قصصيا. فالبطلة فى رواية "راوانـﭙور" – وهى كاتبة معاصرة – هى أقل واقعية من شبح وهمى فى عقل مريض مصاب بالهذيان. "راوانـﭙور" تستقرىء شخصيتها بمهارة خارج الوجود.
إن {طوبا ومعنى يى شب} أيضا قصة طويلة فى فكر روايها / مؤلفها. فهى تبدأ بأفكار وصور واقعية ولكنها تنتهى كبحث فلسفى زائف. وفضلا عن ابتكار صور وأصوات متبادلة، تقدم الرواية حلقات من أصوات غير مختلفة عن بعضها البعض، ولا تقود إلى حوار. وجوهريا فإن {طوبا ومعنى يى شب} هى صوت واحد فقط رتيب، وفى أوقات يكون هستيريا مفجرا كل ما تم كبته لسنوات طوال. إن بناء الكتاب يعتمد على التعليق وليس الصور، وعلى المونولوج وليس الحوار وبهذا فهو لا يلائم شكل الرواية التى من المفترض أن تكون متعددة الأصوات، محددة، ومميزة. و{طوبا ومعنى يى شب} مرعبة إذ أنها تبدو كصرخة فى الفراغ لاتتوقف. وتبدو الرواية الإيرانية فى السنوات الماضية أنها قد ابتكرت أصواتا دون صور كما فى {طوبا ومعنى يى شب} أو صورا بدون أصوات كما فى {تالارى آينه}.
وتكمن أهمية هذه المرحلة من تاريخ الرواية الإيرانية فى طبيعتها المؤقتة والشكوك التى ألقت بظلالها على الصور السابقة الثابتة. فالصراع ما بين اتجاه الروائى للوعظ، رفع المستوى الأخلاقى وبين التشكيكية التى تقاوم أى شكل من أشكال الوعظ ما هو إلا تعبير عن هذا الشك، وصفة الوعظ المتناقضة هى تعبير عن هذا الشك. وخاصية التناقض فى هذه الروايات تجعلها شيقة، ولكنها أيضا تجعل القارئ يشعر كما لو أنه كان يقرأ عن الصور المبتكرة فى العدم.
وهناك نقطة أخرى جديرة بالذكر، رغم أن الإسهاب فيها ليس هو الهدف من الفصل الحالى. إن المشكلة الأدبية فى إيران ليست فقط فى خلق (واقع قصصى) وابتداع الصور الهادمة للمرأة، ولكن أيضا فى ابداع إطار حقيقى للعمل، بوسعه تجسيد هذه الصور. وأيضا على عكس إدعاءات بعض الناقدات عن المرأة الغربية، إن المشكلة فى إيران ليست مشكلة النساء الإيرانيات- فى مجابهة الرجال الإيرانيين – واللاتى لم تقمن بعد بتطوير رواياتهن ولكن لأن كلا منهما يجب عليه إبداع شكله القصصى الخاص وشكل خاص لرواياتهم.
إن الحوار هادم بطبيعته؛ فهو يؤكد جدال الشخص، ويقوضه، ويفقده استقراره ويضعه فى تساؤل من خلال الطرف الآخر من النقاش. ومنذ بدايتها فإن الرواية الإيرانية قد دَمِّرت خارجيا فقط لأن كتابها قد ركزوا على عرض القضايا الاجتماعية والسياسية. هناك حاجة لخلق صور أدبية هادمة بالإضافة إلى الحوارات بين هذه الصور.
وتعلمنا الصور التى فى العدم أنه بدون تتبع واستشفاف التعقيدات والغموض اللذان يحيطان المرأة العصرية، وبدون فهم عالمها الخاص، لن يكون هناك خلق لصورة متماسكة للمرأة. وفى الحقيقة فإن الرواية الهادمة فعلا ستجعل صورة المرأة حاضرة.
لكن الكتابة فى العدم أفضل من الكتابة وفقا لمعادلات ثابتة، متفهمون بشجاعة وجود هذا العدم ربما سوف يقودنا إعادة تقييم خلاقة أين نقف فى علاقتنا بأدبنا فى الماضى والمستقبل.
بالعودة إلى المثال الأول فى هذا الفصل، أتفق مع "أديب" أنه عندما تصبح النساء مدركات لحجمهن، سوف يدأن فى التفكير بطريقة مستقلة ويخلقوا ثورة عظيمة. فى الرواية الإيرانية هذه الثورة لم تحدث بعد، لم تُخلق بعد كالمرأة الحقيقية، المرأة الكاملة، جسد، روح، عقل. بدونها سوف يستمر الرجال فى الرواية الإيرانية فى كونهم غائبين او عقيمين. فالرواية الإيرانية تترقب هذه اللحظة الحاسمة، عندما تلك النساء الحكيمات القويات الفاتنات فى السرد الكلاسيكى الإيران ستجد نظيرهم الكفء فى السرد الإيرانى المعاصر.

[1] جهاز المخابرات فى هذا العصر.

 

الأعداد السابقة

1 2 3 4
5 6 7 8
9 10 11 12
13 14 15 16
       

محرر إيران خان

أنت الزائر رقم

Followers

Copyright 2010 إيران خان - All Rights Reserved.
Designed by Web2feel.com | Bloggerized by Lasantha - Premiumbloggertemplates.com | Affordable HTML Templates from Herotemplates.com.