• RSS
  • Delicious
  • Digg
  • Facebook
  • Twitter

صورة النساء فى الأدب الكلاسيكى والرواية الإيرانية المعاصرة


صورة النساء فى الأدب الكلاسيكى والرواية الإيرانية المعاصرة

الكاتبة/ آزار نفيسى
ترجمها عن الإنجليزية: أيمن بدر

إن رواية "شهرنوش ﭙارسيبور" {طوبا ومعنى يى شب} (طوبا ومعنى الليل، طهران 1989) بدأت بسلسلة من الصور المثيرة، وتفتتح فى نهاية السلالة القجارية الحاكمة فى الوقت الذى بدأت فيه الأفكار الغربية وطرق المعيشة الجديدة مباشرةً فى التأثر وغيرت العادات المنغلقة فى إيران. أبو البطلة أديب، شاعر وعالم، ولكنه رجل بسيط مهتم بالفلسفة والشعر. وذات يوم بينما يسير فى الشارع مستغرقًا فى أفكاره صدمه أجنبى راكبا حصانه، فأوقعه الأجنبى المتغطرس على وجهه. وبعدها أجبر على الذهاب إلى بيت الأديب ليعتذر. هذه الحادثة هى الصدام الأول والأخير بين الأديب والعالم الغربى. والنتيجة الأكثر أهمية لهذا الصدام اكتشافه المروع أن الأرض كروية. وقبل ذلك كان واعيا بشكل مبهم بكروية الأرض ولكنه فضل تجاهلها.
لأيام عدة ظل الأديب يتأمل ماذا تعنى له كروية الأرض ثم أدرك بشكل غريزى العلاقة بين حضور الأجنبى، كروية الأرض وكل التغيرات وثوران الأرض القادم. وبعد عدة أيام أعلن ملخصه "نعم الأرض كروية، المرأة تبدأ فى التفكير، وقريبا بدأوا فى الاعتقاد أنهم سيصبحون شاعرين بالعار".
والنقطة الأكثر أهمية فى هذه المشاهد هى أن المرأة تلعب دورا مركزيا فى أى صيغة للتغيير فى المجتمع بالتأكيد، فى أغلب السرديات الإيرانية تكون المرأة مركزية فى الحبكة وتأخذ مساحة أكبر. وهدفى الأساسى هو تحليل صور متنوعة للمرأة فى الرواية الإيرانية المعاصرة عن طريق النظر إلى أسلافهم فى الأدب الفارسى الكلاسيكى. وفى الحقيقة أود أن أنشأ تاريخا أدبيا للصور المتكررة للمرأة فى الرواية الإيرانية المعاصرة وأعيد كتابتهم من خلال تألق ووميض ماضيهم الغامض.
أول نظيرمعروف لروميو وجولييت هو قصيدة سردية جميلة – {ويس و رامين} (ويس ورامين). كُتبت فى القرن العشرين بواسطة "فخر الدين جرجانى"، ومن المحتمل أنها أقدم ولا سيما أهم مسرودة فارسية من نوعها. فى مشهد واحد فى القصيدة: رامين – الذى لم ير ويس منذ ان كانا أطفالا- يرى هودج يحمل ويس ويذهب. "ريح الربيع ثائرة ترفع (تسرق) ستار الهودج، فتكشف ويس. نظرة راميس الأولى لـويس مشئومة، أغمى عليه ووقع من على حصانه. ملحمة {ويس ورامين} تبعت بسلاسل طويلة من قصص حب مشابهة لها، والاكثر بروزا هى خسرو وشيرين، شيرين وفرهاد، ليلى ومجنون، بيجان ومانيجه. وك "ويس" تتساوى شخصية النساء فى هذه القصص فى الحب والشجاعة كرجالهم. فهم شجاعات ومستقلات، ولديهم إخلاص أكثر من نقصه لدى رجالهم. والأكثر اهمية فى كل هذا هو الحوار الذى يبدعوه. فهم يبدعون حوارا سلبيا مع العالم الخارجى – المتبلد الإحساس تجاه حبهم- وحوارا إيجابيا مع عشاقهم، ويتضح حيث يتحدون أعراف التقاليد. فى الحقيقة أن بنية المسرودات بنيت حول هذين الحوارين المتوازيين.
صورة نموذجية لتجاوز السجن الانفرادى للثقافة الفارسية هى الصورة المفعمة بالحب برقة لشهرزاد، فى {هزار و يك شب} (ألف ليلة وليلة أو الليالى العربية), الملك فى إطار القصة يمثل القوة الذكورية المطلقة. بسبب خداع المرأة، يقطع كل العلاقات الإيجابية مع المرأة وفى الحقيقة مع كل العالم. الملك قوى كفايةً لينتقم من خيانة زوجته من خلال الزواج الأول وبعدها يقتل عذراء كل ليلة. هذه القوة تتخفى فى ضعف فطرى: بدون علاقة قوية مع امرأة، بدون الثقة فى إمكانية مثل هذه العلاقة، الملك يستحوذ عليه مرض حيث يدمر أدبيا كل مملكته.
شهرزاد –ضحية استبدا الملك- هى رمز للشجاعة والعقلانية والحكمة. جب عليها أن تستخدم ما يسمى "مكر المرأة" لتنقذ المملكة وتجدد السلام للملك. والطريقة التى تستخدم بها هذا "المكر" يمنحها قوتها وجرأتها لتوجه وتسيّر الدراما التى تُرجِع الملك خطوة خطوة سلامة العقل. الحقيقة أنها ناجحة فى استخدام الحكاية السردية، كدواء الملك يشير إلى القدرة الشافية للخيال على حساب الواقعية. شهرزاد تستخدم حكمتها ومهاراتها –وتستخدمهم بإدراك- ليس فقط لتغير لكن أيضا لتعالج رجُلَها.
فى كل المسرودات المشار إليها سابقا، العلاقة بين الذكر وشخصيات الأنثى هى محور الدوران حيث كل العلاقات الأخرى تدور حوله. كنقطة رئيسية لكل هذه العلاقات هى ما أود أن أسميه "الدمار الخلاق". هذا المصطلح يحتاج إسهاب أكثر.
كل هذه المسرودات أُبدعت مجتمع ذكورى متسلسل هرميا بدرجة كبيرة. لذا فمن المفترض أن تدور كلها حول الذكر البطل. ولكن هذا الحضور الفعال للنساء الذى يغيّر الأحداث، والذى يحوّل حياة الرجال من إتباع التقاليد، التى تصدم الرجال عن طريق تغيير طريقة وجودهم بشكل كبير. فى السرد الكلاسيكى الإيرانى المرأة الفاعلة تسيطر على المشهد، فهم يجعلون الأشياء تحدث. مثل الريح فى {ويس و رامين} فهم فتحوا أعين المحبين فيهم إلى بصيرة جديدة واكتشافات حيث تحدّد طريق أحدث الرجال المستقبلية.
هذه العلاقة المدمرة توجه تقاليه العلاقات بين الرجل والمرأة. فخضوع البطل للحب فى اتجاه واحد أو يضعفه الآخر ويهذبه، جاعلا عالمه المألوف لا يطاق. هذا التغير يحضر فى أحيان قليلة بإرادة الأبطال أكثر من الضغط الفعلى للنساء فى حيواتهم. فالملك فى ألف ليلة وليلة يتماثل للشفاء، و"فرهاد" يفقد "شيرين" ويموت، و "مانيجه" ينقذ حياة "بيجان" ، و"خسرو" الذى يملك هويته الذكورية يقوى عن طريق مغامراته الجنسية وعندما يتوق إلى حبيبته يتوب -ويتشارك مع "شيرين"- فقط ليّقتل بينما ينام بجوارها، و "رامين" فى النهاية يُكافأ مع "ويس" مع التى عااش معها إحدى وثمانين سنة سعيدة من عمر زواجه.
أما حالة "المجنون" فتتطلب اهتمام أكبر. بعد أن أجبرت محبوبته "ليلى" على الزواج، أصبح "المجنون" صوفيا غاضبا وقضى باقى أيامه فى البريّة. فحب "المجنون" لليلى فّسر –طبقا للتعاليم الصوفية- أنه مرحلة نحو الحقيقة الكبرى. ولكن بالنظر إليها من وجه نظر العشاق، يناسبها أكثر أن نقول: حب ليلى حوّل "المجنون" إلى الدرجة التى فيها العالم بقوانينه والأعراف لم تعد مقبولة له ونفس الأمر لليلى أيضا تنكر دور التقاليد المحددة لها. فماتت أفضل من الخضوع لزواج إجبارى.
مثالى الاخير من التقاليد القديمة هى البطلة فى {القبّة السوداء}، وهى قصة فى كتاب {هفت بيكر} (الحسناوات المنفصلة) لـ"نظامى". القصة تدور حول ملك يصل إلى مدينة حيث كل سكانها فى حداد. ومن أجل أن يعرف السبب، يضطر إلى أن يمر بنفس العملية فيُأخذ خارج المدينة ويوضع فى سلة كبيرة. ويحمله طائر ضخم عاليا فى الهواء ويسقطه فى مرعى سماوى حيث يقابل السيدة الأجمل تخدمها الأقل جمالا منها. وكل ليلة تدعوه السيدة إلى وليمة وتمرح معه حتى يرغب فى أن يمارس الحب معها. وفى هذه اللحظة الحاسمة تطلب منه أن يصبر وتشير له إلى خادماتها الحسناوات. فيداعب ولعها. ولكن من أجل أن يحصل عليها يجب أن يتحلى بالصبر، والصبر هو الشىء الوحيد اللى لا يستطيعه. فيفشل فى الاختبار ويفقدها إلى الأبد. مثل سكان المدينة يرتدى هو أيضا الأسود لباقى حياته حدادًا على خسارته.
السيدة الحسناء فى قصة "نظامى" تشير إلى نقطة هامة أكثر من الصور الاخرى: فهم كلهم جزء من رؤية الشاعر، الرؤية التى فى جوهرها تنكر وتتحدى الواقعية الظاهرية. هذه الصور تبدو واقعية لنا ليس لأانها رسمت بواقعية ولكن لأن نسيجها يناسب جيدا الواقعية القصصية المبدعة فى السرد. هذه الواقعية القصصية تبتدع فقط كستارة المسرح الخلفية لهويتها الغامضة والمبهمة، بمعنى ىخر هى امتداد لهذه الهوية. وفى سياق عالم مبهم تخلق النساء فى السرد الإيرانى الكلاسيكى أيضا الحب والسلام داخل رجالهنّ أو توبّخن وتغرين رجالهن. بطريقة أخرى يقاطعن الحالة الحالية للشئون، بأن يفتحن طريقا لعالم مختلف.
صور النساء المييزة فى المسرودات الكلاسيكة الإيرانية دامت حتىا لفترة حيث تغير المجتمع الإيرانى مثل ادبه على حد سواء تغيرا أساسيا. من المسرودات الطويلة القلائل فى الفارسية المكتوبة بعد المقدمة عن قوالب الرواية فى إيران فى بداية التسعينات، العمل الذى فيه النساء الأكثر مركزية هو {شمس وتقرا} (شمس وتقرا، طهران، 1910) الرواية الرومانسية التى تقع فى ثلاثة مجلدات لـ"محمد باقر ميرزا خسروى".
فى المشهد الأول البطل –شمس- يتعلق بسيدته –ملكة آبيش- ومشاعره تجاه ثلاثة نساء فى حياته. "تقرا" وهى حبه الأول وزوجة وهى المفضلة لديه، لو كان هذا لسبب آخر غير الأقدمية. "مارى" الفينيسية وهى أجنبية تمثل نموذج الخجولة والفتاة الإيرانية المطيعة، وهى صالحة وتصحح أنه لايستطيع مساعدتها ولكن ليحبها. والملكة نفسها لا تقاوم لأنها ماهرة جدا فى فن الجسد. الآن انقسمت الصورة الهادئة والكاملة للنساء فى القصص الكلاسيكية إلى ثلاثة أقسام. حب البطل لا يجعله يركز على امرأة واحدة، وكذلك يوجهه نحو نساء مختلفات. رواية {شمس وتقرا} تعرض السرد الإيرانى فى نقطة تحول. القصة –مع استطراداتها المملة- تتأرجح بين رواية وملحمة رومانسية. ومذل هذا تصنع عددا من النقاط الثقافية المهمة. فهى تنويع آخر على تيمة {روميو وجولييت}. ولكن شمس أوفر حظا من روميو، فهو تزوج جولييت الخاصة به فى منتصف المجلد الثانى واستمر فى التزوج من النساء الأخريات مع القبول والمباركة بل مع إصرار حبيباته على الزواج.
ولا يزال عالم {شمس وتقرا} عالم ذكورى ولكنه فقد تماسكه السابق، والرجال فقدوا ثقتهم بأنفسهم. والنساء فى الأدب الإيرانى الكلاسيكى كان جزءًا –جزءا مركزيا جدا- من رؤية الراوى للعالم، حيث الروح تتحرك ضد إرادة عوالمها. وفى {شمس وتقرا} لم يعد الراوى يملك رؤية منطقية للعالم ولا حتى إحساس بنفسه، بعالمه أو بالقالب الروائى الجديد الذى يتعامل معه. بكلمات أخرى يتردد باستمرار بين الطرائق القديمة والحديثة لتقييم الواقعية والواقعية القصصية على حد سواء.
النساء فى {شمس وتقرا} احتفظن بمكر النساء فى الحكايات القديمة ولكن لم يستغللنها ليحطمن توجهات البطل أو ليتحدّينَ أعارف عالمهم، فالمكر اُستخدم كوسائل للنجاة فى عالم حيث الخضوع له قيمة أكثر من الخيال وهناك لا رجل سيستمع إلى واحدة -ناهيك عن ألف ليلة- لحكايات امرأة. إذن النساء فى الحكايات القديمة استخدمن المكر من أجل النجاة بحيواتهن وكذلك ليفسدن ويغيّرن رجالهنّ. فى {شمس وتقرا} لم تعد النساء تفسدن، تؤكدن فقط.
ومثل صورة الأنثى فى الحكايات الكلاسيكية، فالنساء فى {شمس وتقرا} مثاليات. ولكن على عكس الصور القديمة، نساء "خسروى" خاليات من الدلالات والمعانى. فهن يفقتقرن إلى إشراق ودائرية المرأة فى المسرودات الإيرانية الكلاسيكية التى تبدو اكثر واقعية لنا بالرغم من مبدعيهم لا يقصدون تقديم الواقع أو ما نسميها نحن الواقعية. "تقرا" ووصيفاتها مجرد أشياء وهمية من خيال الراوى، ناتجة عن عقل منقسم مضطرب باستمرار بفعل الأمر الجديد للعلاقات الاجتماعية والشخصية المفروضة عليها.
كما تغيرت صور النساء فى السرد الإيرانى من الرؤية إلى حلم اليقظة، تحولت الوظيفة الفعالة والمدمرة إلى السلبية والمطيعة. العقل المنقسم للراوى الذكر لم يعد يستطيع ان يخلق رؤية كاملة: فتنقسم الصورة الكاملة إلى شظايا. لا أحد من نساء {شمس وتقرا} مصقولة ومكتملة، فكل واحدة منهن تمثل جزء من امرأة كاملة، الجسد والعقل والروح غير متصلين. ومثلما يشرح "شمس" للملكة انه يحتاج إلى ثلاثة نساء مختلفات ليرضى احتياجاته المختلفة.
وكما يكتشف العقل استدارة الأرض، كما بدأت فى فقدان هويتها بدون اكتساب إحساس جديد باكتمال (او استدارة) النفس، ولكن بدأت عملية من التحطّم لدرجة حيث لم تعد تستطيع الإمساك أو التحكم فى الواقع من حولها. هذا هو سبب أن هذه النساء القصصية ليست مكتملات فى أنفسهنّ. فهن تحركن بعيدا عن عالم المسرودات القديمة الغامض والغير واقعى إلى عالم ملموس وأرضىّ للرواية بدون اكتساب التفرد والخصوصية التى تحتاجها لتضىء وتفعّل حضورها. بدون خصوصية –شخصية مستقلة- بدون بعض البواطن، هذه الصور تصبح أيتاما تُركوا فى قصة شخص آخر. النساء المسيطرات بالذكاء والعظمة على الأرض الخصبة للأدب الكلاسيكى الإيرانى فُصلن وانقسمن فى الروايات الرومانسية اللاحقةـ وشوّهن وقُتلن فى {البومة العمياء} لـ"صادق هدايت" (البومة العمياء، بومباى، 1936). ومن حينها تهيم النساء فى صحارى القصة الإيرانية المعاصرة بلا مأوى بلا ظل، وبلا أهمية.
مقدمة الرواية فى إيران يتزامن مع العديد من التغيرات الاجتماعية العميقة التى كان لدى أبو "توبا" البصيرة ليتنبأ بها. وواحد من أهم هذه التغيرات هو خلق صور جديدة للنساء، خاصة أثناء عهد (رضا شاه). حيث كشف الحجاب الذى أقره رضا شاه –مثل حجاب العصور المتعددة بعده- سبّبَ ثوران، وصوّر برمزية الصراعات والتناقضات التى بسخرية صنعت النساء -بدون أى فعالية رئيسية أو قرار فى أدوارهم- مركز الجدل الساخن الصارخ.
خلال هذه الفترة بدأت الكتابة تقريبا فى كلٍ من الأدبين الواقعى والنفسى . فى كل من هذين الجيلين كان دور النساء وعلاقات النساء أو فقدان العلاقات مع الرجال مركزيًا. وأصبحت صورة النساء فى هذه الروايات دائما متطابقة تقريبا مع –أو رمزية- الرسالة المركزية للرواية.
{بوف ﮔور} رواية "صادق هدايت" القصيرة -المقسومة إلى جزئين- كل جزء هو استعارة مركزية للجزء الآخر. وبالقرب من نهاية كل جزء يقتل الرواى امرأة –فى ماهية مظهريّ نفس المرأة. يبدو ذلك كما لو فى هذين (الرمزيين) المشهدين يندب الراوى انهيار العلاقات المثالية تحت الشمس بين الرجل والنساء فى القص الكلاسيكى.
بمعنى أن {بوف ﮔور} خلقت نسخة محرّفة للحكاية الإيرانية الكلاسيكية النموذجية. فى هذه القصة كل عناصر السرد السابقة له موجودة، ولكن فى قالب عكسى. فالراوى فى {بوف ﮔور} يستخدم كثيرا الحقيقة الخارجية ليظهر حقيقته الداخلية. والنساء والرجال فى سرده غالبا رمزية أكثر منها واقعية. فى الحقيقة، النساء فى {بوف ﮔور} يرمزن إلى الصور المأخوذة من السرد الكلاسيكى الإيرانى: المرأة السماوية المستحيل بلوغها (أثيرى) وكل الغانيات سهل الوصول إليهم (لقاطه). بالنسبة للراوى فى {بوف ﮔور} كلا نمطىّ المرأة صعب الوصول إليهنّ.
فى هذا السرد لا يرسم هدايت رؤيةً ولا تلفيقًا من خياله بل هاجسًا والذى –كما عبّر عنه السطر الافتتاحى الشهير- يأكل كل لحظات السارد ويقوده إلى الدمار الشامل. ويقابل القارىء هنا ثلاثة صور متعلقة بالأصل للمرأة: الأم والمحبوبة والعاهرة. كلهنّ تحملن بذور الدمار وكلهنّ مرغوب فيهنّ بجنون، اثنان منهنّ يدمرهما الراوى ولا يعيدهما.
مثل إطار القصة فى {ألف ليلة وليلة{بوف ﮔور} تظهر شخصية الذكر ليست بالضرورة ضحية مكر المرأة بل ضحية لهواجسه. وفى كل هذه القصص تظهر نهاية علاقة متبادلة متناقضة بين الهاجس والتحرر منه. ولكن الشخصية الأنثوية فى {بوف ﮔور} أكثر استسلاما من الشخصية الأنثوية فى المسرودات الكلاسيكية الإيرانية. فهناك تستخدم النساء قوى الخيال لديهن لإنقاذ أنفسهنّ ولخلق عالم جديد، أما فى {بوف ﮔور} يحدث العكس بالضبط. المحاولة للاتصال بين الجنسين تقود إلى اكتشاف الراوى المحبط لعجزه الجنسى، عجز جنسى هو رمز واضح لروح بائسة ومحبطة. والمرة الوحيدة التى نجح فى إقامة علاقة مع امرأة حينما دخل إلى سرير زوجته (لقاطه) متنكرا كواحد من عشاقها الكثيرين، والفعل الجنسى نفسه كان عنيفا لدرجة جعلته يحرر نفسه من عناقها، فقتلها غيرعامد بسكين أحضره معه فى السرير. الإشباع الجنسى والموت أصبحا مترادفين.
تقدّم {بوف ﮔور} العديد من الرؤى النافذة للادعاءات الثقافية الخفية بين الذكر والأنثى فى إيران وأيضا توضح انهيار الحوار بين الرجال والنساء. وفى الروايات التى سارت على نهج {بوف ﮔور} نلاحظ افتقارها للحوار (دلالة على تحطم روحها) وافتقارها لتماسك بنائها.
فى {بوف ﮔور} تقود عملية تحطيم الروح إلى استبدال الحوار (الديالوج) بالمناجاة (المونولوج) وإلى حافز نحو الدمار يزيد من رغبة العاجز جنسيا. أصبحت شخصية الذكر فى {بوف ﮔور} الأولى فى سلاسل الشخصيات العاجزة جنسيا ولديها هواجس التى اجتمعت فى القصة الإيرانية المعاصرة. عدم قدرة الكتّاب على خلق شخصيات أنثوية فعالة وحوار بينهنّ وبين الشخصيات الذكورية أصبحت عقبة أساسية فى طريق تطور الرواية الإيرانية.
تفكك الشخصيات القصصية فى الرواية الإيرانية ربما أيضا شير إلى مشكلة ثقافية أساسية أى تفكك روح الذكر الإيرانى تحت ضغط ومطالب ثقافتين متعارضتين تماما: الأولى، ثقافة الماضى المتلاشية مع نظرتها الموحدة والطبقية للنساء. والأخرى، ثقافة الحاضر الحديثة المستوردة من الغرب مع نظرتها المتشككة والساخرة للعالم ونظرتها المتقلبة دائما للنساء.
نستطيع القول أن صور النساء فى {بوف ﮔور} مبنية على هواجس السارد وإنكاره للواقعية. ولكن لا يزلنَ أكثر واقعية ولديهم حياة قصصية أكثر من الصور التى ظهرت مؤخرا فيما يسمى بالروايات الواقعية؟ فى هذه الروايات الانهماك مع النساء أصبح مفرطا على عكس {بوف ﮔور} تظهر هواجس الكاتب الشخصية، وفى هذه الأعمال تنهار المسافة الفنية بين الكاتب والعمل حيث لا يوجد بنية متماسكة تستطيع أن تحل محل الصور فى علاقة إبداعية مع شخص آخر. هذه السرديات أصبحت محجّبة وسير ذاتية ملفقة، وأيضا متفككة وفوضوية ليست فردية ولا ملموسة وفى الغالب شعارات وإثباتات للرضا المتلطف للنساء ورغباتهنّ الغير مشبعة والتى لا تذكر.
رثاء الشخصية الرئيسية فى {باره يى ﮔمشوده يى راعى} للكاتب "هوشنـﮓ ﮔلشيرى" (مصباح راعى المفقود، 1977) واحدة من أفضل الأمثلة لما يحدث لنفسية الرجل المنعزل، لرغبة رجل وتلهفه إلى أمن أمه والعالم الدائرى ذاك-مثل الرَحِم- يفسح مكانا- للدم وللغذاء له. راعى يقرر أن يهجر محبوبته لأنها قصت شعرها قصيرا وقذفت حقيبتها من فوق كتفيها وربما لم تحترم المقدسات والموتى حينما صبغت شعرها باللون الأصفر. وهناك سؤال تدور حوله الرواية كلها صانعا جوًا من الارتباك: ماذا حدث لتلك الصورة الأليفة المنقادة للجمال ذى الشعر الأسود كالغراب التى قضت لحظاتها فى خدمة رجلها؟
أما الرجل الواثق الذى كان يسيطر على العالم فى الماضى قد انهار. وما تبقى هو بقية من الماضى فى العقل الباطن للكاتب بدون علاقة مباشرة مع العالم الجديد. والعقل فى صراع دائم مع هذا العالم. من ناحية يطلب أن تأتى بشروط تتفق مع الواقع الجديد، ومن ناحية أخرى ليس له سيطرة نهائية عليه ولا حتى فهم للواقع. عداء غامض وعدم ثقة تجاه الواقع الجديد يدعو العالم الغربى أن يصب فى الرواية الإيرانية ويلوّن صور نسائه أكثر من أى صور أخرى.
والكاتب أصبح خائفا من المرأة الواقعة فجأة. فى الماضى كانت المرأة جزءا من رؤيته وأخيرا أصبحت وحيا من خياله، أليفا يراوغ بخجل يعارض رغباته، له حضور يجعله يتلاشى فى غمضة عين. وأن يعيد خلق كائن قصصى يحذر منه فى الواقع أصبح تقريبا مهمة مستحيلة.
لذا هناك شىء مثير يحدث فى هذه الروايات: تحرك بعيد عن الصور الرمزية فى القصص الكلاسيكية -حيث بطريقة ما تشعر أنها حقيقية جدا- إلى الصور الواقعية للقصص الواقعية –حيث تشعر برمزيتها. الكاتب اختار نمط متكرر من الأفكار، مذهب لتعريف والاستيلاء على هذه الواقعية الجديدة ليفرغها من تهديداته ويجعلها تحت السيطرة.
هذه العملية يمكن ملاحظتها جيدا فى تقاليد الواقعية فى الأدب الإيرانى. فهذه الروايات الواقعية تأثرت غالبا بمدرسة الواقعية الاجتماعية المهجورة والمنطوية على مفارقة تاريخية. من حيث البنية اتبعوا القالب الصلب والخطى لرواية القرن التاسع عشر. والشخصيات فى هذه الروايت من المفترض ان تكون حقيقية من الطبقة العاملة أو الفلاحين.
النساء فى هذه الأعمال عادة صبورات وقويات، وتناقضاتهن غالبا خارجية، تعكس التناقض الطبقى داخل المجتمع. وهذا النقص وأسميه (الدونيّة): الفردية والصراعات الداخلية والتناقضات التى تعطى الروايت الواقعية الغربية أضواء وظلال مبهرة. على سبيل المثال رواية {جايى خالى يى سولوﭺ} (مكان سولوﭺ الخالى، طهران، 1979) للكاتب "محمود دولت آبادى" وتبدأ مع "مرجان" البطلة تستيقظ ذات صباح لتجد أن زوجها هجرها هى وأطفالها الثلاثة. فمن الصفحات الأوائل يحول السارد الموضوع حيثأن له أبعاد متعددة داخل القضية الاجتماعية المجرّدة. وعند وصف مرجان وسولوﭺ يُعلِمنا فى أضيق الحدود كيف أن الحب يصبح بلا معنى بين البشر بدون المال. وفى كل محطة عصيبة فى الرواية يثقل السارد شخصياته بأخلاقيات مملة وإسهابات غير ضرورية. وتُقاطع الحوارات باستمرار بواسطة السارد وهو يخاطب القارىء.
حتى الروائيين الذين لايعتنقون أيدلوجية محددة يشاطروا السارد هذا الاتجاه فى {جايى خالى يى سولوﭺ}: حيث يشعرون بانجذاب أكثر للأفكار أكثر من القصة او الشخصيات فى القصة. النساء كضحايا اكثر وضوحا للظلم الاجتماعى يصبحون مركزا لهذه الأخلاقيات والتوضيحات لدى الروائيين، والمرأة الضحية تصبح تيمة شعبية فى هذا الأدب.
وفكرة النساء كضحايا يرجع تاريخها إلى رواية {طهرانى ماخوف} للكاتب "مشفق كاظمى" (ظططهران المخيفة، طهران، 1925). وفى رواية "كاظمى" كل أنماط الملاأة ضحية المجتمع موجودة، من الآنسة الشابة الجميلة الواقعة فى حب نبيل والشاب المفلس يضايقه الطمع، والوالوالدين عديمى الإحساس، إلى المرأة المتهدمة المخدوعة النادمة. من هنا فصاعدا نواجه صور النساء كضحايا اجتماعيين فى عدد من الروايات حيث نستطيع تصنيفها تحت العنوان الملتبس (رواية رخيصة).هؤلاء النساء أيضا ابتلين بالحب، مثل معاناة البطلة الشابة فى {طهرانى ماخوف} أو مثل "آهو" فى رواية {شوهرى آهو خانم} (زوج آهو هانم، طهران، 1961) للكاتب "على محمد افغانى"، خُدعوا بواسطة شكل آخر مفضل للروائيين الشعبيين وهو الغانية التى تسرق زوج البطلة.
فن الرواية الإيرانية تأثر بعمق بالرواية الشعبية وخاصة فى استخدامها لعلاقات الرجل والمرأة كأداة نقل ليقدم الحدث ويبرر الأخلاقيات، أكثر منه كموضوع جدير باستكشاف تعقيداته ومشكلاته. وإذا استخدم الروائيون الشعبيون –مثل مستعان- الأخلاقيات ليبرروا بشاعة الحدث، فهناك المزيد من الروائيين الجادين مثل "افغانى" استخدموا الحدث ليصنع نقد أيديولوجى واجتماعى مستساغ للقراء. وحتى الروائيين الأكثر جدية مثل "صادق وبك" فى العديد من القصص القصيرة وفى الرواية النفسية المشهورة {سنـى صبور} (الحجر الصبور، طهران، 1960) يجعل المرأة الصريعة هى شخصيته المركزية. وفى {بوفى ور} لـ "صادق هدايت"، "لقاطه" صورة قوية تمثل هواجس السارد الشخصية وأخلاقه وعجزه الجنسى على حد سواء. وفى رواية "وبك" ، "لقاطه" تتحول إلى عاهرة ذات قلب طيب-كاركاتور للصورة الكاريكاتورية الآن- مثل العاهرات فى روايات "دستوفسكى".
فى رواية بعد الأخرى، خلق الكتاب الإيرانيين وأعادوا خلق صورتين مفرطتين وباليتين للنساء، الضحايا والعاهرات. وفى كلتا القضيتين تصبح إمكانية علاقة ذات هدف بين الرجل والمرأة محض سراب. مع استثناء روايتين كتبوا بواسطة نساء، بلا محاولات حقيقية تصنع لفك حبال الشكوى الاجتماعية من الصور المأخوذة للنساء- لندع النساء يُجذبن إلى كنز مدفون أخفينه فى أعماق وجودهم الوهمى أو أيًا كان. ولكن حتى هاتان الكاتبتان المشهورتان –"دانشوار و ﭙارسيـﭙور"- غير قادرتين على تقديم التناقضات الثرية والتعقيدات الداخلية لشخصياتهن القصصية.
فى رواية {سوواشون} للكاتبة "سيمين دانشوار" (طهران، 1969)، تحاول المؤلفة سبر أحاسيس امرأة متزوجة سعيدة والتى رغم ذلك تعانى من الموقف البطولى العنيد الذى يتخذه زوجها تجاه الحكم الإيرانى الفاسد وأسياده الأجانب. تقديم "دانشوار" لشخصية "زارى" تخلق بعض ارتباك لدى القارىء، فهى تبدو كما لو أنها أوصافا مباشرة وصريحة لأعمق مشاعر "زارى"، وهناك يوجد بعضٌ من عاطفة جياشة حيث لا تستطيع التعبير، كما لو أن استياءا عميقا يتمنى أن يظهر للسطح ويهزأ بأقدس انتماءاتها. ولكن لا تسهب "دانشوار" فى هذا الجانب الخفى والمزعج لـ "زارى". وفى النهاية حين قتل زوجها، اتخذت "زارى" مواقفه السياسية بإخلاص واقتناع. و"دانشوار" – مثل زوجها الأخير الذى يضاهيها شهرة- "جلال آل احمد" صنعت تعبيرات اجتماعية من خلال شخصياتها. وهى - مثله وحشد من الكتاب الآخرين- شجبوا الأيدلوجية ولكن اتبعوا أفكار سارتر ثم الأقوال المأثورة على ضرورة "حفظ النثر". بسّطت معاناة بطلتها الحقيقية وهو الصراع وألم الاختيار بين زوج تحبه واستقلال العقل التى فى أشد الحاجة إليه.
{سـﮓ و زامستانى بلند} (الكلب والشتاء الطويل، طهران، 1976) أول رواية طويلة للكاتبة "شاهرنوش ﭙارسيـﭙور" هى أول سرد لقصة شخصية تدول حول تجارب ومحن فتاة إيرانية من الطبقة المتوسطة. فى الجزء الاول تخلق العلاقات الخادعة التى تقع فيها الفتاة ولكن فى الجزء الثانى فجأة ينهار السرد ويتحول من التمثيل الواقعى والوصف إلى تيار من المؤسسات المتورطة فى موت أخى الفتاة وسجنه ومعاناته. كما فى روايتها الأخيرة {طوبا ومعنى يى شب} تبدأ " ﭙارسيـﭙور" بالصور الملموسة لحياة امرأة ثم تتسلل إلى تأملات غامضة.
ببعد الثورة الإسلامية المحجب السابق والتلميحات الرمزية للنظام السياسى وتحوله إلى انتقادات علنية وصريحة للحكومة فى العصر البهلوى. فى رواية "رضا براهينى" الضخمة {رضايى سارزمينى من} (أسرار أرض موطنى، طهران، 1989) خادمات أرمينية الأصل وزوجات متمرسات لموظفين إيرانيين كبار يُخدعوا عن طريق جنود أميريكيين وحشيين ذوى سلطة. فوى مقابل هذا الإغواء الرمزى للنساء الإيرانيات والذى يساوى رمزيا الرجال الإيرانيين الديوثين باستغلال الأميريكيين، لدينا نساء شجاعات ونبيلات مثل "تهمينه" والتى اسمها يذكرنا بزوجة/خليلة رستم، البطل الإيرانى الأسطورى الحازم. فتصبح رمز إيران النقية.
فى رواية {آوازى كشتيجان} (أغنية القتلى، طهران، 1983) للكاتب "براهينى"، نجد أننا أمام محاولة نادرة لرسم المرأة المعاصرة. ولكن يا للحسرة، فهى زوجة البطل كاتب وأستاذ جامعى حيث يضايق باستمرار ويُعذّب بواسطة السافاك[1]. وكاستجابة لندمه على الحياة الغير ىمنة التى منحها لزوجته وابنته، تعطيه المرأة –وللقارىء أيضا- محاضرة كاملة تتعدى الثلاث صفحات حيث تمجده لفضحه لنظام الشاه أمام العالم كله بينما كلنا صامتون. وتقول (على عكس معظم الرجال الذين يستخدمون زوجاتهم ليكتسبوا الثروة والسلطة علمها هو أن تساعده فى عمله المحفوف بالمخاطر. وتستمر فى مدحه وتقتبس من الشاعر الإيرانى العظيم "سعدى" وتدعوه ب "صوت القتلى"، وتشكره على ضمانه لها إمكانية مسح تعذيب السجون الإيرانية. وهكذا قضية اجتماعية سياسية معقدة تتحول إلى إصدار مميز من فيلم "المهمة المستحيلة"، وعلاقة الحوار الثنائى ومتعدد المستويات تتحول إلى مونولوج مبتذل يكرر نفسه، والزوجة تصنع ما لا يستطيع الزوج عمله مباشرة: أن تستخدم علاقتها لتصنع منه بطلا.
أتعجب قليلا من أن القارىء لهذه الروايات لديه شعور غريب، كما لو أن الصور ثائرة على سوء معالجتها وترفض أن تأتى للحياة وترفض أن تدعم طلب كتابها لكى تراهن على قضايا الإنسان الجاد. عامة فى الروايات طبقات متعددة من العلاقات تُخلق فى التفاعلات بين الأفراد. والعالم الخاص لهؤلاء الأفراد يصبح مجسدا، والطبقة الداخلية التى تعطى مادة لطبقات الأخرى للقضايا الاجتماعية والأخلاقية والفلسفية. الصور فى معظم الروايات الإيرانية تفتقر إلى جسد. فعدم قدرتهم على صنع علاقات يحول الشخصيات إلى مجرد أصداء لشخص آخر ولمبدعهم فى الأساس.
رواية {ثريا فى غيبوبة} للكاتب "إسماعيل فصيح" واحدة من الروايات الإيرانية القلائل التى حاولت –فى أفضل تقاليد الحكاية الشعبية- أن تخلق صورة للمرأة المعاصرة المستقلة. وهى تتبع -فى الحقيقة نماذج صريحة- من رائعة همنجواى (الشمس تشرق أيضا) فى أطراف الحبكة والموضوع والشخصيات والأحداث. البطل الساخر يغادر برومانسية دموع حرب إيران إلى باريس لزيارة ابنة أخيه ثريا والتى حجزت فى المستشفى فى غيبوبة. وهناك يلتقى بالعديد –فى الغالب عديمى الأخلاق- من المغتربين الإيرانيين وبينهم يجد سيدة جذابة ساخرة ذكية. هى لا تقاوم بحيث يصبح الرجل عاجز جنسيا مجازا. كل الشخصيات الأخرى فى الرواية إعادة جمع مبهمة لشخصيات رواية همنجواى. فلا النساء المبهرجات والسخرية المحبطة ولا مشاعر البطل المحبطة تجاهها تخلق أى عمق أو انطباعات تدوم لدى القارىء.
فى معظم الروايات التى كتبت بعد الثورة الإسلامية، صور النساء تتمات لصور أدب ما قبل الثورة. تلك الروايات تفتقر إلى التفاعل النشط بين شخصيتى الرجل والمرأة . والبعض –مثل روايات الحرب للمؤلق "احمد محمود"- ليس بها شخصية أنثوية رئيسية. فى العديد من الروايات الأخرى يلغى المؤلفون الحوار بين الرجال والنساء لغياب الرجال أو بعجزهم النفسى –غن لم يكن الجسدى. أما الروائى وصانع الأفلام "محسن مخلمباف" الشاب المسلم المثير للجدل خصص روايته {باغى بلور} (الحديقة البللورية، طهران 1989) للنساء "النساء المضهدون على هذه الأرض". وحشدت هذه الرواية بالنساء الذين قتل أزواجهم فى الحرب أو سيقتلوا فى نهاية الرواية. وتنتهى الرواية على نحو غريب بمسيرة سلمية للأرامل والاطفال مع الرجل الوحيد المتبقى فى الرواية، الوحيد الذى خُصىّ فى الحرب.
رواية {تالارى آينه} (قاعة المرايا، طهران 1991) للكاتب "آمى حسين ﭼلتان" والتى تدور حول ثورة إيران الدستورية (1906)، مليئة مرة أخرى بالنساء. والنقطة الرئيسية فى الرواية تبدو أنها العلاقة أو –أفضل- اللا علاقة بين ميرزا ثورى من أسرة أرستقراطية وزوجته المريضة التى تحتضر. ابنتهما الجميلة نسخة طبق الأصل من أمها. وميرزا يلام بشكل مبهم ربما لإهماله زوجته الحبيبة الحنونة. هذا الشعور – ككل الآخرين- لم يعبر عنه بشكل واقعى. تنتهى الرواية بموت الزوجة. ويتيّم الزوج المكلوم بالصورة المطابفة لابنته لخطأه فى حق زوجته الميتة. نادرا ما تجد كاتبا يقدم للقراء صورا متدلية وفى بعض الأحيان متألقة بدون حياة أو مادة.
وهكذا خلال فترة الثمانينيات تأرجحت الرواية الإيرانية بين التعهد الأيدولوجى والإسقاطات الهاجسية للذكر، تاركةً شخصيات النساء مسطحة وغير ملموسة. مما يدعو للدهشة وللأسف أن مثل هذا التعميم الجارف يصنع بثفة حول جزء جوهرى فى الأدب الإيرانى المعاصر.
بعد خمسة او ست سنوات ظهر اتجاه جديد فى جيل أصغر من الكتاب الإيرانيين، فدخلت الرواية الإيرانية عصرا جديدا حيث به أكثر ما يميزه طبيعته المؤقتة. فالثورة الإسلامية –مثلها مثل العديد من الثورات العظيمة- هزت كل القيم والمبادىء داخل المجتمع. وبعض المبادىء دامت أو عادت للظهور فى قوالب مختلفة. ولكن هذا العصر –فى إيران والعالم نفسه على حد سواء- عامة عصر الشك وعدم اليقين. والآن صورة النساء يعاد النظر فيها ويعاد تعريفها. تحت الضغط الشديد، يجب أن ينظر النساء إلى أنفسهن ليس فقط كأعضاء فى مجتمعهم او بلدهم، ولكن كأفراد أعيد تعريف حيواتهم الخاصة وحريتهم.
فى هذه الحالة من التدفق عندما يُشكّ فى كل شىء وحين يشعر الحاضر باللاواقع أكثر من الماضى، الصور القديمة للنساء - الواقعية فى الظاهر- لم تعد لها وظيفة. وفى معظم الروايات الحالية تبدو الصور أنها تهاجم معا كما لو أنهم يرفضون العمل تحت ظروف الحاضر. فى هذه الروايات –وخاصة روايات الكتاب الشباب (اثنان منهم نساء)- الصوت السردى أيضا ينهار أو يصبح مونولوج واحد طويل بلا إيقاع والشخصيات حتى أكثر ظلالية وغير حقيقية أكثر من الروايات السابقة. فالروايات تعبر عن نزعة للوعظ والشك وعدم اليقين فيما يعظون به.
ونرى هذه العملية فى {طوبا ومعنى يى شب}. إن الحكاية التى كنت قد استشهدت بها فى بداية هذا الفصل توضح أن "ﭙارسيـﭙور" على وعى بالخوف الغريزى لمفكرى إيران من القضايا الإجتماعية التى على علاقة مباشرة بالمرأة. ومن هنا فإن روايتها – مثل أحدث روايات "منيرو راوانـﭙور": {دلى فولاد} (قلب من حديد، طهران، 1991) تعطينا رؤى مثيرة، فالروايتان عن امرأة تبحث عن مكان لها بالمجتمع، إلا أن هذا البحث لم يكن أبدا مركز الأحداث ولا يكون أبدا محددا أو ذاتيا أو واقعا قصصيا. فالبطلة فى رواية "راوانـﭙور" – وهى كاتبة معاصرة – هى أقل واقعية من شبح وهمى فى عقل مريض مصاب بالهذيان. "راوانـﭙور" تستقرىء شخصيتها بمهارة خارج الوجود.
إن {طوبا ومعنى يى شب} أيضا قصة طويلة فى فكر روايها / مؤلفها. فهى تبدأ بأفكار وصور واقعية ولكنها تنتهى كبحث فلسفى زائف. وفضلا عن ابتكار صور وأصوات متبادلة، تقدم الرواية حلقات من أصوات غير مختلفة عن بعضها البعض، ولا تقود إلى حوار. وجوهريا فإن {طوبا ومعنى يى شب} هى صوت واحد فقط رتيب، وفى أوقات يكون هستيريا مفجرا كل ما تم كبته لسنوات طوال. إن بناء الكتاب يعتمد على التعليق وليس الصور، وعلى المونولوج وليس الحوار وبهذا فهو لا يلائم شكل الرواية التى من المفترض أن تكون متعددة الأصوات، محددة، ومميزة. و{طوبا ومعنى يى شب} مرعبة إذ أنها تبدو كصرخة فى الفراغ لاتتوقف. وتبدو الرواية الإيرانية فى السنوات الماضية أنها قد ابتكرت أصواتا دون صور كما فى {طوبا ومعنى يى شب} أو صورا بدون أصوات كما فى {تالارى آينه}.
وتكمن أهمية هذه المرحلة من تاريخ الرواية الإيرانية فى طبيعتها المؤقتة والشكوك التى ألقت بظلالها على الصور السابقة الثابتة. فالصراع ما بين اتجاه الروائى للوعظ، رفع المستوى الأخلاقى وبين التشكيكية التى تقاوم أى شكل من أشكال الوعظ ما هو إلا تعبير عن هذا الشك، وصفة الوعظ المتناقضة هى تعبير عن هذا الشك. وخاصية التناقض فى هذه الروايات تجعلها شيقة، ولكنها أيضا تجعل القارئ يشعر كما لو أنه كان يقرأ عن الصور المبتكرة فى العدم.
وهناك نقطة أخرى جديرة بالذكر، رغم أن الإسهاب فيها ليس هو الهدف من الفصل الحالى. إن المشكلة الأدبية فى إيران ليست فقط فى خلق (واقع قصصى) وابتداع الصور الهادمة للمرأة، ولكن أيضا فى ابداع إطار حقيقى للعمل، بوسعه تجسيد هذه الصور. وأيضا على عكس إدعاءات بعض الناقدات عن المرأة الغربية، إن المشكلة فى إيران ليست مشكلة النساء الإيرانيات- فى مجابهة الرجال الإيرانيين – واللاتى لم تقمن بعد بتطوير رواياتهن ولكن لأن كلا منهما يجب عليه إبداع شكله القصصى الخاص وشكل خاص لرواياتهم.
إن الحوار هادم بطبيعته؛ فهو يؤكد جدال الشخص، ويقوضه، ويفقده استقراره ويضعه فى تساؤل من خلال الطرف الآخر من النقاش. ومنذ بدايتها فإن الرواية الإيرانية قد دَمِّرت خارجيا فقط لأن كتابها قد ركزوا على عرض القضايا الاجتماعية والسياسية. هناك حاجة لخلق صور أدبية هادمة بالإضافة إلى الحوارات بين هذه الصور.
وتعلمنا الصور التى فى العدم أنه بدون تتبع واستشفاف التعقيدات والغموض اللذان يحيطان المرأة العصرية، وبدون فهم عالمها الخاص، لن يكون هناك خلق لصورة متماسكة للمرأة. وفى الحقيقة فإن الرواية الهادمة فعلا ستجعل صورة المرأة حاضرة.
لكن الكتابة فى العدم أفضل من الكتابة وفقا لمعادلات ثابتة، متفهمون بشجاعة وجود هذا العدم ربما سوف يقودنا إعادة تقييم خلاقة أين نقف فى علاقتنا بأدبنا فى الماضى والمستقبل.
بالعودة إلى المثال الأول فى هذا الفصل، أتفق مع "أديب" أنه عندما تصبح النساء مدركات لحجمهن، سوف يدأن فى التفكير بطريقة مستقلة ويخلقوا ثورة عظيمة. فى الرواية الإيرانية هذه الثورة لم تحدث بعد، لم تُخلق بعد كالمرأة الحقيقية، المرأة الكاملة، جسد، روح، عقل. بدونها سوف يستمر الرجال فى الرواية الإيرانية فى كونهم غائبين او عقيمين. فالرواية الإيرانية تترقب هذه اللحظة الحاسمة، عندما تلك النساء الحكيمات القويات الفاتنات فى السرد الكلاسيكى الإيران ستجد نظيرهم الكفء فى السرد الإيرانى المعاصر.

[1] جهاز المخابرات فى هذا العصر.

0 تعليقات:

Post a Comment

 

الأعداد السابقة

1 2 3 4
5 6 7 8
9 10 11 12
13 14 15 16
       

محرر إيران خان

أنت الزائر رقم

Followers

Copyright 2010 إيران خان - All Rights Reserved.
Designed by Web2feel.com | Bloggerized by Lasantha - Premiumbloggertemplates.com | Affordable HTML Templates from Herotemplates.com.