الحياة .. فهم هذا المعنى متأخرا .
كانوا يقولون له : "ألا تخجل وأنت شيخ طاعن في السن؟!" "هل
تزوجتها؟" قالتها أبنته. فصاح بصوت
عالٍ: "ماه منير"
نظر الى الظلام وأنصت الى
الصوت الذي لم يسمعه. أمسك جانب الفراش وحاول أن ينهض . لكن ارتجفت يداه ووقع الى
الخلف مجدداً . لم يسمع أنين ماه منير.. صاح مجددًا : "ماه
منير"
حين تأتي "ماه منير"
تضع الورود التي اقتطفتها من الحديقة في الوعاء بجوار الفراش وتمسح بيدها على ورود
البنفسج .
تجلس على كرسي مريح وتبدأ فى قراءة
كتاب له .. تعطي له الدواء وتجلس بجواره حتى ينام. ثم تطفيء الإناره وتنزل الدَرج،
إذا تعافى يعيد ترميم البيت. ثم يغطي رأسه تحت الغطاء ويفكر بعيون "ماه
منير" السوداء ذات الأهداب الطويلة .
صاح هذه المرة بصوت عالٍ: "
ماه منير"، صاح بطريقةٍ أخرى كي تسمعه .. رفع نفسه من على الفراش.. صبر
حتى يهدأ ألمه .. ثم عاد يحدّق في الظلام . كان قد سمع صوت وقوع "ماه منير"
من السلالم أو صوت تحطّم قضبان السلم.. حاول تحريك أصابع قدميه
.
قال له الدكتور : "
للأسف السكتة قد فعلت فعلتها"
يقول له الرجل : " والآن أنا
مُقعَد؟"
-"سأسمح لك بالذهاب الى
البيت"، وينحني هامسًا "لديك ابنة جميلة".
رفعت "ماه منير"
يدها من على كتف الرجل الشيخ.. مسحت وجهه و أجلسته على الكرسي المتحرك
.
أخذ يفكر في الطريق ، ماذا يفعل لو
تركته "ماه منير" ورحلت.. لم يسألها الى أين تأخذه وحين وصلو الى البيت قرّت عينُه
.
تضع طعامه كل مرة أمامه وتنظر اليه
حتى يأكل وثم تنزل الدَرج.. كان يظن بأن "ماه منير" تتركه أيضا..
لكنها لم تتركه أبدا.. ظلّت معه.. كل مرة أراد أن يقول لها: "أفنيت شبابكِ من
أجلي" فلا يستطيع.. فقط راح يحدق الى عينيها السوداوتين
.حاول بقوة أن يسحب نفسه إلى أسفل..
يستطيع أن يسحب قدمه إذا وصلت يداه الى الأرض . انعكس ضوء القمر على
الستائر والهواء تغلغل خلالها.. أراد أن يسحب نفسه الى الدَرج حتى يستطيع رؤية "ماه
منير". يتمنى لو لمرة واحده أن يضع رأسه على كتفها ويمسك بيديها وينظر إلى
عيونها السوداء .
ماتت زوجته.. تركته ابنته.. جاءت "ماه
منير" لرعايته وأصبحت كل مايملكه في الحياة.. فَهَم هذا المعنى متأخرا ..
كانوا يقولون له: "ألا تخجل وأنت شيخٌ كبير" "هل تزوجتها؟" قالت
ابنته هذه العبارات فكان يقول لها غاضبًا: "اتركيني" تصعد "ماه
منير" الدرَج بسرعة .. يقول لها: "قولي لها أن تتركني وشأنى.. أنا مرهق"
يسحب
الغطاء فوق رأسه .. ابنته في طريقها نحو الدرَج تقول له: "سيتهدم البيت فوق
رأسك"لم يخبرها أنه مَلّك البيت لـ
"ماه منير" . كان يصيح فى ابنته: "دعيه يتهدم ، اتركيني
وشأني".
انقشعت
الغيوم.. جرَّ نفسه الى الأمام .. عبر الغرف والممرات .. أحسّ بالبرد.. جرَّ نفسه
الى جانب الدرَج.. كانت بقع الدم المتخثر ممتدة الى نهاية الدرَج.. سَقطَ.. حاول
النهوض فلم يستطع .. كانت هناك أسفل الدرَج.. التصق بالجدار .. هبط إلى الجانب ..
كان يسمع صوت تكسّر عضام "ماه منير" في أذنه حتى نزل من السلم. أمسك ثوب "ماه منير" بقوة.. غمرتهم أشعة الشمس.. أراد أن يقول: "ماه منير" لكن لم يقلها..نظر إليها فحسب.
تعد رواية {البومة العمياء} للكاتب "صادق
هدايت" واحدة من أهم الأعمال الأدبية فى اللغة الفارسية. والتيمة
الرئيسية للقصة هى محاولة نحو حل خبرات الكاتب/الراوى المزدوجة للواقع مقابل
اللاواقع، الحسى مقابل المعنوى والموت مقابل الحياة. ومشاكله الضمنية هى رهاب جنسى
وملازمة الموت للنساء (تيمة أساسية فى الأدب) و الغثيان المصاحب للموت/النساء.
ومن الهام أن نفهم رمزية الراوى من منظوره للشخصيات
الأنثوية. وبالدراسة العميقة لمثل هذه الرمزية تظهر لنا أن الراوى غير فضولى فى
التعامل مع نساءه التى خلقهن كشاشات بيضاء يصب عليها جوانب تنوعة من شخصيته التى
لا يستطيع الاعتراف واعيا بها. ومن أجل أن ينفذ إلى قلب مشاكل الهوية والوجود لدى
الراوى، فيجب الربط بين خبرة الأمومة و النساء مع مشاكل الاستقلالية وضعف الأنا.
والذكر المتفهم والعناصر الأنثوية كجانبين لنفس الشخصية وربما أيضا نراهم مرتبطين
بأساليب الإدراك والتواصل مع العالم. مرتبطين بالقيام بفعل والإداراك عن طريق
التفكير والتواصل من خلال رموز لفظية عادة ما ترافق إدراك العنصر الذكرى، بينما
الإدراك الحسى والتواصلى خلال العاطفة هو ما يشكل العنصر الأنثوى.
لذا فمن الممكن أن نقترح أن الراوى يعانى من انفصام فى
الشخصية ويحاول دمج الانشقاق فى العنصر الأنثوى. وهذا فى الواقع يطرح تصور الرهبة
والخوف من عنصره الأنثوى. وفى مثل هذه الحالات تكون المشكلة الكبرى للنساء كونها
مقيدة مع اتجاهاته الشخصية ودائما العنصر الأنثوى متفكك فى كلٍ من الرجال والنساء.
وفى المجتمع الذمورى مثل إيران تحتاج قضية كبيرة فى الثقافة المعاصرة أن تُشرح فى
بنود تطوير أساليب القوة الكاذبة، والتى ترتكز على دينامكية نوع واحد وهو الذكور.
وأنى يكون هناك انعدام عميق لأمن الوجود فتوظف ديناميكية الذكر تلك كبديل لوجود
العنصر الأنثوى. وفى تلك المجتمعات الواقع يوجد عادة فى جانب النموذج الذكورى
والذى تم فيه القضاء على وجود وإدراك كل العناصر الأنثوية. وسيكون فى هذه المواقف
مشاكل لدى الرجال فى قبول الإناث العنصر الأدنى الغير مقبول فى ثقافتهم.
ويجب أن نلاحظ أيضا أن الرجال فى عهد "هدايت"
–ولأول مرة فى التاريخ الإيرانى- شهدوا على تحول النساء الإيرانيات التقليدية
إلى نساء القرن العشرين المعاصرات. هذا النوع -الذى التحق بمراتب الأحزاب
السياسية، استجمع قواه، وله محبون- تحمّل الإجهاضات وحتى الأطفال اللقطاء. أيضا
تحدين الصورة ثنائية القطبية للنساء إما فاضلات أو عاهرات. الذكور المثقفين لهذه
الفترة وبعدها بمدة طويلة تفهموا مبادىء المساواة والحرية لكلٍ من الجنسين وفى نفس
الوقت نموا مع المفاهيم التقليدية للخير لا الجنسية، والمرأة العذراء، لا شك سيطرح
مشاكل فى النسخ مع هذه الصورة. وليس معروفا ما إذا كان يتعين الركوع على الركبة
تحية لها كأم أم الازدراء الحسى لها كعاهرة. فى النهاية هؤلاء الرجال بحاجة إلى حضورها
أو يندفعون لتدميرها. اما هدايت فليس لديه أى استثناء فتفضيلاته للتواصل الروحى
الغير حسى مع المرأة الجديدة. فالشخصيات النسائية عنده ربما ترى كحالات درامية
للمواقف وتفهم كمحاولات للتعبير عن مواقف الكاتب تجاه النساء –عنصره الأنثوى-،
ولتجسيد هذه المواقف أمام المعرفة الأنثوية من أجل التعامل مع مشاكل الهوية
والكينونة. وبسبب خبراته الثقافية والذكورية فى المجتمع فإنه يعيش أيضا متأثرا
بتلك الحالات الدرامية.
ورمزية النساء فى كتابه بارزة. فالعيون والوجوه مهمة لأن
المرأة ترتبط لديه بالانعكاسات الخلاقة. والكاتب وهو يبحث عن تأكيد الهوية يائس من
العيون أو الوجه الذى يمكن أن يرد عليه لتأكيد وجوده. وعندما لا يجد الراوى مثل
هذا التأكيد فحياته ضائعة. ومن هذا المنطلق فوجه المرأة الملائكى وعيونها مرتبطة
بالموت. ومشكلة المرأ’ الآن أصبحت مشكلة وجود ومعنى ضائع. فهى تستطيع خلق انعكاس
للكاتب أو تستطيع الرحيل بلا أى هوية خلاقة. وبخلافه ذه المشكلات فمضطرب العقل
يستطيع خلق امرأة مثالية والذى ليس لديه هذه الصعوبات أو مخاطر كونها أخلاقية او
جنسية. وهنا نشهد دافع لإنكار واقع أمام رفض هستيرى. فالمرأة المثالية هنا ما هى
إلا امرأة لا أخلاقية ساهرة والهوس بها أبدى.
وكلمة "هوس" مهمة فى صلات القصة. فالراوى يريد
المرأة المثالية أن تبقى فى عالم الموتى بل يجب أن تبقى غير ملموسة ولا يراها
الآخرون. وفى وقت لاحق عندما تصبح المرأة المثالية نفس صورة الأم يدرك المرء لماذا
الكاتب مشغول مسبقا بالمرأة كتركيز على مشكلة الحياة والموت. فالأم هى مانحة
الميلاد لذا فالراوى مندهش من الحالة النفسية الغريبة لأمه. وتنسحب الأم وهناك
حالة ملحة لإيجادها فتصبح المرأة المثالية هى الأم. فكيف يستطيع المرء تحمل ممارسة
الجنس معها أو اختراق جسدها؟ لذل فيجب تجنب أى اقتراح حميمى مع النساء بالمعنى
الحسى. وبالنسبة له فهذا مستحيل. ومن هنا تصبح ممارسة الحب تركيز انهيار الأمان
والكيان.
ويستمر البحث عن المرأة المثالية فتصبح زوجته كالأم.
فسعى الراوى هنا رمزى حيث بحاجة للبحث عن أمه فى عالم الموتى ويقتبس منها الكمال
الذى يعكس معنى الوجود. ففقد الأ يتركه مدركا لمعنى ناقص فى الوجود لذا فيجب أن
يجدها ليكمل عملية وجوده وحتى لو كان يعنى هذا الرجوع بالزمن وللعلاقات الأولية.
فما يحتاجه هو إحساس جديد بالزمن ليحقق تأكيد الهوية والتصالح مع أخلاقه.
ولكن فى عالم الخيال هذا كيف تحدث عملية ميلاد الكينونة
مع خبرة رفض وجود وإدراك العنصر الأنثوى. فيكون نموذج الام موجود ولكن يزول. بمعنى
ان تقتل مثل المرأة المثالية والزوجة ولكن نبيذ الأم السام وعيون المرأة تبقى معه.
وهذا يمكن أن يأخذه لعالم آخر يختبر من خلاله الميلاد الجسدى من جديد.
ما نشهده هنا ليس عناصر أوديبية كشكل رئيسى للقصة ولكن
رهاب جنسى واشمئزاز مرتبط بالموت. وخوفه هذا هوسى يقوده من سلوكيات مقصودة إلى
التغلب على الاكتئاب الناتج عن رهاب الموت. الراوى لا يريد أن يصبح حقيقى وفى نفس
الوقت خائف أن يُطلِق ظلاله. فالشخص له ظل فقط إذا كان حقيقى وحىّ فلا ظلّ يغرق فى
لاو جود – فى الموت-.
ولكن العيون والنبيذ لا يأكدون وجوده، الزوجة المقتولة
لا تترك مثل هذه الصفات والراوى كان له اتصال جنسى معها فهو ملوث ومريض ومثير
للاشمئزاز فيفقد شهيته ويتزاوج كالحيواناتز وفى هذا المستى من اللاوعى هناك خوف من
الجنس كأن تأكل أو تؤكل. فالأشياء حين تؤكل تختفى فينسلخ الإنسان من وجوده، فبدلا
من أن يؤكل يحلم بأكل المرأة وجعلها تختفى.
فعلاقة الكاتب المفككة بعنصره الأنثوى تحدث وراء انهيار
علاقاته مع باقى العالمز تصبح الأرض ساحرة شريرة وتفقد كل المعانى والدلالات. ويتزايد
الميل للانتحار عندما يؤمن أن العالم الذى يستحيل أن يميز الواقع من خلف الظهور
المرسوم هو عالم لا يستطيع أن يغيب. فسأم الحياة رمز للانتاحرا لفصامى حيث يقود
إلى الانسحاب والموت فى عالم الأشباح.
فى اللاوعى يؤمن الراوى بفساد العلاقات من خلال الاتصال
الجسدى لا يفضى إلى شىء ذى معنى. مما يدل على وجود عنصر فصامى فى عقله. والشخص ذو
العقل الفصامى يبحث عن العزلة ولن يأخذه الاتحاد مع المرأة لطريق التشتت لذا يدفن
المرأة. والآن يستطيع أن يكون حرا وحيد ولكن حىّ وفى هذه العملية يدين بدُونية
نصفه –المرأة بداخله- الجزء الذى يخشى أن يفسد أو يُمرضه.
فهو يعبر عن حيرة المرأة الشديدة كتركيز على الظهور
والواقع. ولكن عدم الثقة فى المرأة ليس كراهية فى النساء، إنه نتيجة التأمل العميق
لمشكلات طبيعة الإنسان ووجوده. وربط هدايت المرأة بالموت له القدرة على التعامل مع
الواقع من خلال "فزاعة المأسوية" والموقف الانفصامى المصاحب لعجزه عن
تحمل والموافقة على واقع أخلاقه التى توحى بشكل من عدم الترابط مع الواقع الذى
يخدمه كدليل على مشكلات وجوده.
فى {البومة العمياء} يفشل الكاتب فى تأسيس
صحة وجوده وحريته وهذا بسبب نظرته لنفسه وللآخرين وللعالم بشكل عام، فى صراعه مع
الميلاد الجديد يهيمن عليه رفضه للعناصر الأنثوية كوجود وكيان. وهذا الرفض ناتج عن
مشكلاته الفصامية، ولكن أيضا تتضخم عن طريق المواقف السائدة تجاه النساء فى بلده
الأم.